الأحد، 18 ديسمبر 2016

البيغ بنغ

الاسهم النارية والبيغ بنغ
---------------------
  في الليل كانت الأرض تحتفل، وعام يفلّ...
  وكان الكون يطوي زمنًا كوانتوميّـًا مستذكرًا لحظةً من لحظات البدء حيث انفجر انفجارًا عظيمًا فكان ..
  في الليل.. كنا نمتّع العيون برؤية الأسهم النارية.. كلّنا دون استثناء، الكبار قبل الصغار.. لأنّهم أكثر حرصًا على حسن سير المشهد.. وربما لأنهم صاروا أكثر رسوخًا في الرموز.. ربما لأنهم استزادوا وتزوّدوا انسانية.. بل ربما وعَـوا ما لدى الصغار من ترميز.. كمن يتعامل مع الجينات الأشدّ رسوخًا بشريّـًا..
  والقضية قضاء وقدر.. شئنا أم أبينا..
  والمسألة.. بين الإنفصال والإتصال.. بعيدة عن أي ترابط بعلوم البيئة.. إذ ان الأسهم النارية ليست معنية بحاستَي الشم والسمع، اللتين يجب العناية بعدم التعدّي عليهما،  بل هي معنية بالمشهد المنظور الممتع المؤتلف من ملايين الألوان الفوتونية.. التي تسرّ الذاكرة الجينية العميقة للانسان الأرضي..
    فالأسهم في لغتنا العربية نيازك نيازك شهبٌ شهبٌ..
    والنار.. أنوار وأضواء.. وكل نور وليد انفجار..
    أليس الفجر إنفجارًا؟
    ألا تنفجر المياه من المنابع؟
    أليست الولادة إنفجارًا عاطفيّـًا؟
    ألسنا نرى في تشظّي الأنوار ولادةً جديدةً؟
    ألسنا نرى في انتشار الأسهم النيزكية جنينًا ينمو؟
    ألا نرى فيها زمنًا يتنامى ويتقدّم ويتقادم؟
    بل إن الأسهم مساهمة ومشاركة في عملية الخلق..
    بل هي ذكرى فطرت فيها كلتا السماء والأرض..
    بل هي ذِكرى أنفجار عظيم.. 
    بل انها ذكرى البيغ بانغ..
    ذكرى قرّر فيها الكون مجدّدًا أن يكون..
    فكان الكائنُ وكان الكونُ..
    وانفجر عند ذلك الزمن..
    فتراكمت السنونَ.. فصار للسنة رأسٌ..
    ففي الأعراس نفجّر الأنوار..
    وفي الولادة نفجّر الأضواء..
    في العماد نفجّر المياه والأنوار..
    في الختان.. في الأنتصار.. في التحرير.. في كلّ الأفراح..
    ففي الأنوار حياة جديدة..
    لأنّه عندما وجدت العيون والآذان صار الكون يسمع ويرى..

الجمعة، 2 ديسمبر 2016

البربارة. الفيلولوجيا تكشف السرّ

"البربارة" حدث فيلولوجيّ بامتياز
    *********************************
   عيد البربارة أو عيد القديسة "بربارة" أو عيد الشهيدة بربارة هو عيد مسيحيّ يُحتفل فيه بشكل خاص بين المسيحيّين العرب في لبنان، سوريا، فلسطين والأردن. يحتفل به المسيحيّون الغربيّون يوم 4 ديسمبر، والشرقيّون في السابع عشر منه.
    يحتفلون بالعيد مساء يومَي 3-4 كانون الأوّل من كل سنة بتقاليد خاصة. إذ يخرج الأطفال والشباب مساءً في أزياء تنكريّة ويطوفون على بيوت الجيران والأقارب والأصدقاء ويعايدونهم، فيتمّ إعطاؤهم بعض الحلويات اي ما يشبه (العيديّة). ويرافق احتفالات البربارة أغان وأناشيدُ، حيث يخرج الناس إلى ساحات القرى وينشدون الأناشيد الدينيّة والأهازيج.
   وفي يوم العيد يتمّ سلقُ القمح والذرة التي يتم تقديمها مع السكّر والرمّان أو إضافات من حلوى أخرى ...
 و يعرف باسم "البربارة" طبق تقليديّ لهذا اليوم يقدم كنوع من تحلية،  وليس كطعام.
  يُقال انَّها اعتنقت المسيحيّة وغضب أبوها وهمّ بذبحها ولكن هربت من النافذة واختبأت في حقول القمح؛ ويبدو احتفال التنكّر الذي يمارس في العيد ترميزًا للتخفّي عن الأعين. 
  وتقول المصادر انَّها من مواليد بعلبك في القرن الثالث الميلادي ابنة ديوسقوروس وثنيّ متعصّب وغنيّ.. نصحوها بمراسلة المعلم أوريجانس أستاذ مدرسة الإسكندريّة الكبير.. كتبت بربارة إلى أوريجانس بما يدور في رأسها من أفكار دينيّة فلسفيّة وطلبت إليه أن يتنازل ليكون معلمًا لهاّ، فابتهج بذلك وأجابها على رسالتها، موضّحًا حقائق الإيمان المسيحيّ وأرسل لها كتابًا بيد تلميذه فالنتيانس، ولما قرأت رسالته امتلأت من الروح القدس، وأدخلت فالنتيانس الى قصرها ليكون أحد أساتذتها فلقّنها أصول الإيمان المسيحي.  
   آمنت وتعمّدت وتأملت وصلّت وحطّمت التماثيل، واحتشمت وسجنت في برج وهربت من أبيها الظالم، وطلب مساعدة الوالي مركيانوس اعتقلت وعذّبت وقُطع ثدياها إلى أنْ قطع الأبُ رأسَها بيديه ٢٣٥م، فحدثت معجزات، اما هو فعوقب حرقًا بصاعقة...
   موقع سانت تقلا  الرقميّ يقول: وُلدت في قرية جاميس التابعة لمدينة ليئوبوليس بنيقوميديا، في أوائل القرن الثالث في عهد الملك مكسيمانوس الذي تولّى الملكَ سنة 236م. تختلف المصادر في تحديد هويتها، فمن قائل انَّها وُلدت في نيقوديميا (في آسيا الصغرى) الى قائل انَّها وُلدت في لبنان، في مدينة بعلبك، الى قائل انَّها ولدت في فلسطين، وحتى في مصر(حسب الأقباط).

الفيلولوجيا تكشف سر "بربارة":
******************************         
    ما الحدث الحقيقيّ الملازم  لمناسبة  "البربارة"؟
   ضاع الرواة في تأكيد مكان ولادة بربارة رغم أن الحدث لم يتغيّر عبر الزمن، من بعلبك إلى جاميس الى نيقوديميا الى لبنان إلى فلسطين إلى مصر القبطيّة، فكيف حفظ الرواة الحدث؟ ولم يحفظوا المكان؟
   ثم تكرّر وجود القمح كحدث محوريّ لدى الرواة دون مبرّر ...
   ثم التعذيب وخاصة قطع الثديين، الأمر الذي  تكرّر مع القديسة "أغاثا" بعد قليل من السنين أي في ٢٥١ حتى سمّيت شفيعة الأثداء، وانتشرت اللوحات التي تتناولها، وكأنَّ السيناريو لازم للراوي (أو هو تعبيرعن حالة عنفيّة بسيكولوجيّة).
   لذلك ندرس الاحتمالات الفيلولوجيّة لعلّها تكشف السرّ باختصار شديد:
   أولاً: الاسم يتألّف من الجذر "بر"  و"بار".
   ومن السهولة الإشارة الى أن "البرّ" وهو القمح...
   مما يفسّر وجوده المحوريّ وسط الحدث...
  لذلك يتناول المحتفلون في هذه المناسبة القمح المسلوق المزيّن بالسكاكر والمكسرات والألوان لزيادة عامل التغذيّة.
  والبرّ، هو البريّة والفلاة  المزروعة بالبرس.
  ونكتشف أنَّ البربارة هي شفيعة بلدة "برسا" المجاورة لطرابلس لبنان،  دون أن يدريَ أبناءُ البلدة ان القضيّة فيلولوجيّة فالاسمان من الجذراللغويّ (بر).
  وكذلك فإنَّ "البرَّ" هو الابن.
  والبارُّ، هوالابن الوفيّ... وهو الباريء الشافي والبريء من التهم.
  إذًا،  هو عيدُ البرّ أي القمح،  والحنطة، والخير والرزق والخصب.
  إذًا، هو عيد "الابن البار" الوفيّ والباريء والبريء.
  إذًا، هو عيد يتطابق مع ولادة الابن البارّ الذي أبرأ المرضى والبريء من التهم... لعلّه المسيح نفسه.
  أمّا لماذا ذكر المناطق المذكورة أعلاه؟؟ نرجّح  أنَّها غنيّة بحقول القمح...
  وهنا نلفت الى أن "براباس" الذي هُتف باسمه لدى محاكمة المسيح ما هو إلاّ المسيح نفسه (لأنَّه هو البر + راب + س)  أي "ابن الربّ الآب" الأمر الذي لا يدركُه القاضي الرومانيّ، ولن يكتشف اللعبة اليهوديّة في المحاكمة...
  هذا باختصار لأنَّ الموضوع طويل..!

الثلاثاء، 22 نوفمبر 2016

بين القلم والورقة
--------------
   عاشقان.. منذ وجدا.. ما استطاعا ان يفترقا.. عندما كان القلم وحيدًا طمر رأسه بالطين.. فرأسه عاجزٌ عن العيش دون أن يعمل.. البطالة عدوّته.. بقي هكذا مقطوعًا من شجرة.. الى أن وجدها.. بردية.. برّدت حرارته.. امتصّت هياجه.. تلاصقا عشقًا أبديّـًا.. وترافقا وتزاوجا.. والزواج جوازٌ..  والحبّ مبدع.. ولاّدٌ.. ولا يحول بينهما حائلٌ..  ووثاق الحبّ لا ينفصم..  
   ولان غريزة البقاء راسخة في الكائنات.. عبّرت عن نفسها وتجلّت بالولادة.. تناسلت لأجيالٍ وأجيالٍ .. خلقت واصطَفَت..  وورّثت  خير صفاتها.. هكذا الحب.. تراكم الجمال، تراكم الحسن، تراكم العلم، تراكم الفهم.. وأجيال تجمّلت وأخرى تعلّمت.. ولفظت الدنيا عنها الغريب وأورثت السليم وتحسّن النسلُ.. قفزت أجيال الأقلام والأوراق قفزات نوعية نحو التطوّر.. 
   عمّرا طويلًا وعمّرا حضاراتٍ  ورفعت عمدًا وجداراتٍ.. حمت شعوبًا ودُمّرت أخرى.. وهما أحباب متزاوجان لا يفترقان بينهما حبّ ومداد وحبرٌ خلّاقٌ  متنوّع  الالوان ..
   أيّ إبداعٍ هذا!
   ذاك الإبداع الذي لم يتوقّف.. أراحهما.. والمواليد يريحون الأهل في آخرتهم.. 
   وها هو الزمن الذي حلّ اليوم ليمهّد الراحةَ للعاشقين ، الأبديين المتقدّمين بالعمر وباتا أحوج الكائنات لان يركنا الى مخدعما.. ولأوّل مرّةٍ سيعودان الى مخدعهما دون أن ينسجا حروبًا جديدةً.. أو سلامًا جديدًا.. فقد إطمأناعلى انتشار العلم الذي أسّساه معًا.. وصار بين أيدي التاريخ أجيال مدركة واعية.. فلتتحمل مسؤليتها كاملة.. وإذا أخفقت أحيانًا فقد أورثاها إرثًا عظيمًا فليعودا الى مراجعته..
   وبعد عمرٍ طويلٍ  ستجدون عند أحد الأضرحة شاهدًا صخريّـًا يشهد على تاريخ مديد لن ينكره أحدٌ مهما تقدم الزمن..
   قفوا أمامه وترحمّوا على دورٍ عظيم انجزاه.. واحرصوا على ميراثٍ باهظٍ ولا تضيعوه.. ففي أيديكم اليوم وغدًا مُكاتِبٌ دافيءٌ  وحافظة متنوّعة الاشكال والخدمات.. فما عليكم إلاّ أن  تعيشوا سلامًا.. هذه وصيّةُ الإقلام والورق وسيل من مداد ملوّن حبّر حقباتٍ مديدةً من السنين!!
   
بقلمي٢٠١٤

النور المتسلل

...هناك، كان النور يغفو في كوخ صغير؛ كان يتمتّع بالراحة المديدة، كل شيءٍ مغلق، يحجب عنه العالم، كلّ العالم  الخارجي،  كان يحلم، يحلّق في فضاءٍ فسيحٍ عميقٍ عميمٍ، كان يحلم بطيورٍ مجنّحة في زرقة سماء، تحت بياض غيومٍ، تسبح على ريش ريحٍ رطبٍ.. هاهو من روؤس أمواج الى قمم جبال، يندّي الزهورَ وأفناناً غضّـةً، وبراعمَ وأوراقًا..
   كان النور يحلم.. والأحلام جميلة، ترفرف.. تعلو الحجر والبشر والحيوان والغاب.. يحلم بنسيم.. يقفز من عطر زهرة فواحٍ الى أنف صبية.. النور يرغب، النور يحبّ، النور يشمّ..

   عندما تفتّحت أكمام زهرةٍ عن وريقاتٍ حمراءَ قانيةٍ..
   عندما هبّ بعض النسيم يحملُ  عطرَها،  ويحرّك بعض منافذ الكوخ،  وما أن قدر النور أن يتثاءب، راح يطلّ برأسه عبر شقوق وثغور على الحقول والبساتين.. منتشرًا بسرعةٍ هائلةٍ.. يلوّن كلّ شيءٍ بألوانٍ بديعةٍ ملائمةٍ.. لوّن  رقيق أوراق الشجر بالأخضر.. لوّن الغصونَ.. لوّن الجذوع.. لوّن التربةَ.. وحلٌق يلوّن السماءَ بالأزرق.. فنانٌ أفلت من عقاله يختار لعناصر العالم ما تستحق من مشاهد وتعابير..

   ...فيما كان أخونا النور.. يشتم العطور..  والريحان.. والعبق.. كانت فرشاته تتراقص مع حفيفٍ  مع خريرٍ مع زقزقةٍ  مع رفرفةٍ مع تنهيدةٍ .. مزج لتلك الزهرة خيارًا جاذبًا.. بعض الأحمر.. بعض الأخضر.. مع بعض الطل.. وندّى خدودَ شذاها بالليلكي الليليّ المتلأليء حالمـًا كما النجوم الغافلة.. في ليل الأحلام..
   ..وهكذا همّ ينشرُ الفجرَ.. فجر الأنوار.. تسلّل عبر زجاج تلك النافذة، عبر ستائر مخرّمة..  وحطّ على خدين..
   ..الخداّن والوجنتان.. كلاهما مباركان.. بالأبيض بالقرمزيّ..  واستغرق زمنًا يخطّ  ويضيف ويصبغ ما شاء له تلك الشفتين.. والنور يكحّل كما ينير!.. فتسلق الى الجفنين يكحّلهما بسوادٍ حالكٍ.. وذاك الشعرُ.. فيه من النور ما يكفي.. بل فيه من النسيم ما يرفّ ويفرح..

   حدّق النور بها.. فتية.. صبية.. هنية.. أيقظها حلم الصباح.. وانتصبت تتحقّق من ذاتها.. وذواتنا في المرايا.. ومرآتها الى جانب نافذة.. وحطّ  طائر النور على ثوب النوم.. ملاصق.. تقاسيم.. تضاريس.. صناعة الأنوثة إيّاها..
  النور متسلّل.. عبر الثنايا.. من خروم الأبر.. خارقٌ للنسيج.. حتّى كاد يظهر.. جسد غضّ يطلّ من الشفافية .. من الحياكة..
   أدركنا.. النور يتنشّق.. والجيد معّطر ناعمّ.. والجيد حريريّ..  والفتيات اناث مراهقات.. والمراهقات جاذبات نور الذكورة.. والنور كما يبدو ذكر ذكر.. وهنّ يحببنه، يرغبنه، يردْنه!

الأحد، 20 نوفمبر 2016

بين القمر والقمار

ما العلاقة بين القمر والقمار؟  
لطالما تساءلنا عن تلك العلاقة اللهجية في لغتنا العربيّة؟ سيما وان لغتنا تمجّ المقامر بكلّ أشكالها، منذ عهود المقامرة على ثياب المسيح المصلوب، مما يعني ان هناك سببًا لا تستطيع كشفه إلّا الفيلولوجيا، بالذات المشرقيّة، بالاضافة الى التراث الميتولوجي والحضاري!!
   من المعروف أن للقمر علاقةً وثيقة بالشهر...
   من المعروف أن القمر كان موضع تكريم، فهو النور اللطيف في الشرق بالمقارنة مع أشعة الشمس الحارقة...
     من المعروف، أنَّ الشهر سمّي شهرًا من الجذر "شهر" يشهر، أي أعلن يعلن، ولا يمكن إعلان الشهر إلّا من كان ذا قدرة ونفوذ، كالملك والكهنوت.... 
   وكان العامّة يراهنون على ظهور القمر، كلٌّ منهم حسب حساباته الخاصة ورؤيته، وتنجيمه (من نجم)، وكان لهذا الأمر، علاقة اجتماعية واقتصادية.. إذ يكون لصاحب الدين علاقة باسترداد دينه في أقرب وقت، والمديون له علاقة بتأخير الدفع.. وكلُّ ذلك مرتبط بمزاج الملك والكاهن المكلّف برصد ظهور الهلال المنتظر...
   والعامّة من جهتهم، قد يراهنون على ظهور القمر واعلان الشهر، مما يسبّب ربحًا أو خسارةً..
  من هنا حفظت اللغة العربية المضمون المنقول عبر ألفيات وأزمنة طويلة.. منذ بابل العظيمة.

الاثنين، 5 سبتمبر 2016

القلم والورقة

بين القلم والورقة
--------------
   عاشقان، منذ وجدا، ما استطاعا ان يفترقا، عندما كان القلم وحيدًا طمر رأسه بالطين، فرأسه عاجزٌ عن العيش دون أن يعمل، البطالة عدوّته، بقي هكذا مقطوعًا من شجرة، الى أن وجدها، بردية، برّدت حرارته، امتصّت هياجه، تلاصقا عشقًا أبديّـًا، وترافقا وتزاوجا، والزواج جوازٌ،  والحبّ مبدع، ولاّدٌ، ولا يحول بينهما حائلٌ،  ووثاق الحبّ لا ينفصم.  
   ولان غريزة البقاء راسخة في الكائنات، عبّرت عن نفسها وتجلّت بالولادة، تناسلت لأجيالٍ وأجيالٍ، خلقت واصطَفَت، وورّثت  خير صفاتها، هكذا الحب؛ فتراكم الجمال، تراكم الحسن، تراكم العلم، تراكم الفهم، وأجيال تجمّلت وأخرى تعلّمت، ولفظت الدنيا عنها الغريب وأورثت السليم وتحسّن النسلُ، قفزت أجيال الأقلام والأوراق قفزات نوعيّة نحو التطوّر. 
    عمرا طويلًا وعمّرا حضاراتٍ رفعت عمدًا وجداراتٍ،  حمت شعوبًا ودُمّرت أخرى، وهما حبيبان متزاوجان لا يفترقان، بينهما حبّ ومداد وحبرٌ خلّاقٌ  متنوّع  الالوان.
   أيّ إبداعٍ هذا!
   ذاك الإبداع الذي لم يتوقّف، أراحهما، والمواليد يريحون الأهل في آخرتهم. 
   وها هو الزمن الذي حلّ اليوم ليمهّد الراحةَ للعاشقين الأبديَّين المتقدّمين بالعمر وباتا أحوج الكائنات لان يركنا الى مخدعما، ولأوّل مرّةٍ سيعودان الى مخدعهما دون أن ينسجا حروبًا جديدةً، أو سلامًا جديدًا؛  فقد إطمأنّاعلى انتشار العلم الذي أسّساه معًا، وصار بين أيدي التاريخ أجيالٌ مدركةٌ واعيةٌ، فلتتحمل مسؤليتها كاملة، وإذا أخفقت أحيانًا فقد أورثاها إرثًا عظيمًا فليعودا الى مراجعته.
   وبعد عمرٍ طويلٍ  ستجدون عند أحد الأضرحة شاهدًا صخريّـًا يشهد على تاريخ مديد لن ينكره أحدٌ مهما تقدم الزمن.
   قفوا أمامه وترحمّوا على دورٍ عظيم انجزاه، واحرصوا على ميراثٍ باهظٍ ولا تضيعوه؛ ففي أيديكم اليوم وغدًا كاتِبٌ دافيءٌ  وحافظةٌ متنوّعةُ الاشكال والخدمات، فما عليكم إلاّ أن  تعيشوا سلامًا... هذه وصيّةُ الإقلام والورق وسيل من مداد ملوّن حبّر حقباتٍ مديدةً من السنين!!
   
بقلمي٢٠١٤

الأربعاء، 13 أبريل 2016

قصة الورقة الشافية

     قصًّة: الورقة الشافية  
    *************
       كان ماكان.. 
       إمرأة عجوز.. تقدّمت كثيرًا بالسن.. وليس كل العجائز يبقون دائمًا بصحةٍ جيّدةٍ .. فهم مضطرون للشعور بالمرض.. منهم من يتألّم.. والألم دافعٌ لزيارة طبيب.. مهما حاولوا تجنّبه...
       لم تحظَ بالعلم أيّام الأتراك ولا أيام الفرنسيين.. وفشلت كلّ المحاولات بتعليمها.. وبجهد جهيد تمكّنت من معرفة أسماء بعض الأبناء.. وأكتفت بمعارفها الموروثة.. بعض المعارف موروثة من الريف وبعضها موروثة من الحياة المتنقّلة التي عاشتها.. 
      وبعض المشاكل حلّتها بالايمان والصلاة والصوم.. وبعض الأمراض حلّت ربّانيةً.. وكلّ الآلام المحمولة ليست أمراضًا هي تجارب دنيوية ودروس وخبرات تراكمية..هكذا يفكّرالكثيرون من الناس، ولا يزال منهم الأغلبية يعتمدون هذا الموقف الى ان يصل الموسى الى الرقبة.. لذلك، أن بعض الأوجاع  لا تنفع معها العلاجات التقليدية.. ربما بحاجة لخبرات طبيب أو حكمة حكيم ..

     .. قد تختلط الأمور على الكبار.. سيما إذا اتيحت لهم الرغبة بالتعرّف الى عيادة طبيب.. وخاصّة إذا إلتصقت بالذاكرة بعض الشفاءات المستعصية بنظر العجائز رافقتها كثافة أقاويل النسوة في زمن غابر استنهضتها الذاكرة المتأخرة من عمق العقل البشري..
    هكذا جرى.. بعد آلام مبرحة لم تبرح بسهولة.. ولم تنفع بعلاجها أساليبها النمطية..  لم يكن همّها الموت وهي المتقّدمة بالسن وعافت الرغبة بالاستمرار.. ولكن من يحقّق لها الشفاء..
فالموت أشرف لها وقد أشرف عليها.. 
  
*****************
    جرجرت جسدها بصعوبة.. سنّدت ساعديهامندفعة الى الأمام..  ونظرها الضعيف يلتفت يمينًا فشمالًا يتفحص حقلًا قريبًا طالما حضن صبحياتها وودّع لياليها.. شرب معها القهوة.. واحتسى الى جانبها الشاي.. متسائلة عن مصير الورود المهملة لأوّل مرة منذ زمنٍ بعيد.. والدجاجة لاتزال تحتفظ بحبوبها لأيام قادمة حاضنة فراخًا واعدةً..  والزيتونات زيتيّات هذا العام.. لا يمكن إهمالها.. رافقها الزيتون منذ الصغر.. وورثت عدّة شجرات الأرملة.. رعتها بيديها وروحها.. وخاطبتها همسًا وجهارًا.. وطالما حكت لها نوادر وأقاصيص..  وشجّعتها على النمو وكانت شجراتها تستجيب.. وأقسمت لمن كان الى جانبها أن في الزيتون ملاكًا حاميًا يخاطبها  متى شاءت وشفيعًا شافيًا .. لذلك كانت حريصة على الزيوت المستخرجة.. قائلة ان في الزيت قداسة لا تهملوه.. وكانت بقناعةٍ تقول أن الزيت رمز للذات.. 
   كلّ ذلك.. وكلّ اهتماماتها اليوم تصبّ على معالجة هذا الداء المستعصي.. الذي يمتنع عن المغادرة حتّى انه زادها رغبةً بالمغادرة ان لم يفارقها.. لعلّ هذا الحكيم عنده الحكمة في ايجاد الحلّ.. وإلّا فلتحلّ وتفسح  مجال الحياة لهؤلاء        الأصحاء.. وكفى..

*****************
واصلت المسير.. بذلت الجهد.. جلودة، لايضنيها تعبّ، عنيدة الإرادة، أعتادت الشقاء.. والمستوصف ما كان بعيدًا لولا آلام الليل، وهي التي قطعت المسافات الطوال وتسلقت المرتفعات وتدرّجت الصخور.. ولان هذه البلاد لا تقطع ولا ينقطع المرء فيها أبدًا.. تتوقف سيارة تقلها خلال دقائق الى باب الحكيم.. ومن الباب وجدت من يسعف في اسنادها ويخاطبها يا جدّتي.. ولم يتوانَ الموجودون عن افساح المجال لتتقدّمهم.. والدكتور جاهز..
وراح الدكتور يجري طقوسه المعروفة.. إلّا ان المشهد الخارجي كافٍ لكشف حالتها.. استجابت واستلقت وتنفست وتنهّدت حسب التعليمات.. أجابت بما تعرف عن أسئلته.. بدت بشاشته مريحة في مواجهتها.. وأخفى عنها قناعته.. 
وراح يسأل الممرّضة عن وضعها علّها تعلم..
طمأنها.. كلاميّـًا.. والمخفي أعظم..
كان مقتنعًا ان الكلام معها لن ينفع..
والأمراض الخبيثة لا علاج لها في حالة هذه العجوز..
لعلّه قادرٌ على وقف الآلام.. والموت رحمة..
ومن الآن والى أن يسمح العمر لا بد من وصفة..
طمأنته يا حكيم معي المال اللازم لشراء مايلزم..
وكلّ مال الأرض لن يشفيها..
وما تملكه من مال تجاوزته الأيام..
ولكن الحكيم حكيم والوصفة وصفة..
لا عليكِ يا ستّي ان شاء الله ستشفين..
كتب على ورقته الوصفة السحرية التي غالبًا ما ينتظر نتائجها المرضى .. أنه موضع ثقة.. وكلامه لا يتكرٌر مرتين.. وورقته مقدّسة.. هكذا قالوا عنه.. والرب الشافي..

*****************
      سلّمها الورقةَ.. قال لها تأخذين منها ثلاث حبّات، صباحًا وظهرًا ومساءً.. حفظها الناس جميعًا.. حتى هي التي ما تناولت الأدوية في حياتها باستثناء تلك الأبر الفرنسية التي اعتمدوها لمكافحة الأوبئة.. ولم تكن تستطيع رفضها.. كانت بعمر قادر على استيعاب المطلوب والاقتناع بالكلام العلمي..
     ولم يخلُ الأمر من  مؤاذر يوصلها على الباب ومن ثمّ الى  أي سيارة مارّةٍ.. الحياة لا تخلو من الأوادم..
     غادرت تاركةً خلفها الحكيم في حيرته.. ما الحلّ يا ترى؟ 
     راح يستعين ويستجير بالمحيطين به.. ويقول غاضبًا انها على شفير ان تغادرنا قريبًا.. يعني وضعها الصحّي خطر لا نعرف متى يتوفاها الله..  في اسبوع  اسبوعين.. بلّغوا من يهمه الأمر.. وعسى ان يخفّف العلاج عنها آلامها.. فالآلام هي الأهمّ ..
    ولم تفارق تفكيره ولا مرة منذ معاينتها..
    ومضت ايّامٌ وأيّامٌ..  ولم يسترح فكرُ حكيمنا .. وبعض الأطباء حكماء.. والحكيم أهم من الدكتور.. منهم من يشفي بكلمة ومنهم من يشفي بنصيحة ومنهم من يشفي بالماء ومنهم من يشفي باللمس.. ومنهم من يشفي بابتسامةٍ... هكذا كانت تقول تلك الصبية الجميلة التي سردت على الطبيب وشردت بين يديه لانه كان يشفيها بطلّته فقط..
   
  ****************
    .. والحياة لا تتوقّف.. الأيام تمرّ سريعة.. والطبيب على نار.. 
نار الشعور بضرورة ايجاد حلّ لتلك المسكينة.. ولأوّل مرة كان اهتمامه يفوق العادة.. يسأل الممرضة المساعدة بطريقة عرضية مفتعلة تجنبّـًا للوضوح في أعلان المواقف.. ولكن الشيء الوحيد الذي لم يستطع اخفاءه هو ما سمعه المحيطون به أن هذه العجوز تشعّ بالقداسة.. وتضفي على الأجواء شعورًا شبيهًا بالأحاسيس اللذيذة التي تلفّ الانسان الزائر في حضرة الأديرة القديمة أو المعابد التراثية..  وكان هناك من يلاحظ لجوءه عدّة مراتٍ الى الملفّ للاطلاع والتحقق من اسم تلك المرأة..  
    لم يتوانَ أخونا عن ابداء الاهتمام العلني،  سائلًا موظّفي المستوصف عن مصير التي احتلّت حيزًا بارزًا من تفكيره دون معرفة الأسباب.. ولكن لم يحظَ بالجواب الشافي.. وراح يستفسر عن امكانية معرفة عنوان السكن، فأفادوه بمكان الحيّ دون تحديد.. وما اكتشفه انه لم يسجّل وجود وفاة والّا كان الأمر قد ظهر للعيان..

******************
    ذاك اليوم..ما ان انجز وقت العمل، صمّم تحويل سيره باتجاه عنوان الحيّ الذي أشاروا اليه.. مصطحبًا إحدى العاملات كالعادة، وما أن أشارت المرافقة إليه بالتوقّف للسؤال عن العجوز، أوقف سيّارته وأركنها جانبًا وترجّلا وسارا بين خطين من أشجار الزيتون، وتمتّعا ببيئة نظيفة بعيدة عن التلوث.. صحيح هو طبيب ولكن كم يتمتّع المرء بالشعور بفسحة ريفية.. مما أثار الرغبة بالمشي الرياضي.. ألا انهماأطلّا على ثلاثة أطفال يبدو عليهم الراحة والفرح يلعبون  في مساحة من الارض.. امام بيت قديم جدًا مفتوح الدرفتين، اقتربا منهم يسألانهم عن هذه القديسة التي شغلت اهتمامه.. "وين التايتا عمو؟" أشاروا الى البيت قائلين أن "هذا بيتها وهي هناك بالحقلة"..
   بدت الدهشة على وجه الدكتور الحكيم بل الصدمة الإيجابية.. دون أن ينبث ببنت شفةٍ.. ودون أن يظهر ما يعتمل في ذهنه.. والسبب لهذه الحالة التي وقع بها هو ان المرأة حية ترزق.. وكيف تكون حيةً.. وهي كانت في وضع يرثى له صحّيّـًا..
  
  ******************
       دفعه الفضول لان يسترق النظر الى هذا البيت العريق الصغير، أول ما بدا له ذلك السراج الفخاري الزيتي الذي تتوسطه فتيلةٌ قطنية والمضيء بأنوار متراقصة مع كل نسمةٍ.. والمقاعد العتيقة المغطاة ببسط ذات الصناعة اليدوية التقليدية المتعدّدة الألوان.. وعلى الجدران بعض الصور الفوتوغرافية التي يشغل مساحة كبرى منها شاربان منتصبين كالنسر المجنّح.. 
   حوّلا نظريهما باتجاه الحقل.. القابع تحت سماء نظيفة متجلية تحلّق في فضائها غيمات بيضاء تتهادى بطيئة من الغرب الى الشرق.. ترتفع فوق أجنحة طيور خفّاقة.. وهناك تواصل الشمس بأشعتها اللطيفة مسيرها باتجاه البحر وتلوّن زرقته بمتدرّجات متسلسلة من الأصفر والليموني والليلكي.. فيما تتجمّع الأشعة عند محطتها الأخيرة هناك عند الأفق البعيد الذي ستصله بعد ساعات.. 
    تنسّما هواءً نقيّـًا.. وسرّا بمحيط من الحنان تحت أقواس حجرية تاريخية منحنية.. وراحا يحثّان الخطى نحو المكان الذي أشار اليه الأطفال الثلاثة.. بين أشجار الزيتون وغمرات الغرسات الخضراء التي تلفّ جذوع عتيقة مجدولة لا تتشابه أبدًا.. وأدركا وجود العجوز المعجزة..

  *******************
     لم يتلكّأ حكيمنا بأناقة طقمه المكوي وقميصه الابيض المنشى وياقته الثمينة وحذائه اللماع.. من أن يطأ التربةَ الزراعيةَ ويضطرّ لان يطأطيءَ الرأس أحيانًا لتلافي غصون الزيتونات المجدولة برفقة تلك المساعدة الصبية الفتية التي لا تختارإلّا الألوان الفاتحة لملابسها.. مما يجعلها حريصة على تجنّب ما يمكن ان تسببه التربة البنيّة.. ومع حرصها على مرافقته حتى النهاية.. رغم الكعبين اللذين لا يمكن ان يسلما من رمل البساتين.. 
    وها هي تبدو لهما شيئًا فشيئًا.. بشعرها الأبيض الذي يطلّ من تحت غطاء الرأس.. ولباسها الرمادي.. تستند الى جذع شجرتها العزيزة  بين شجرات كثيرة كثيفة مستجيبة لرغبة التيتا بالخصب والخير.. 
   وكلّما اقتربا كان صوتها الذي يرندح بالعتابا والميجانا ويصدح بالمواويل البلدية الخارجة من القلب ومن شفتين وحنجرة أضعفتها الأيام.. يتسع ليغمر آذانهما بمعاني الذكريات المستدعاة من عمق الزمن.. وكلّما أطلقت الصوت بأغاني "أبو الزلف"  تبدو كأنها تخاطب الغصون الكثيفة المبشرة بموسمٍ واعدٍ..
   ها هي تحمل في يسراهاغصن الزيتون تطرد من تسوّل لها نفسها من البعوضات الاقتراب لاقلاق راحتها.. تضعه جانبًا وتتناول  كوبًا لا بد انه مملوء بالشاي.. فرشت على الأرض بساطًا ملوّنًا وضعت عليه ابريقها وصحنًا ممتلئًـا بحبوب الزيتون ووريقات شتلات النعناع ورأس بندورة بلدية من انتاج الارض إيّاها لا يشك الناظر بنكهتها الفريدة الأصيلة.. الى جانب خيارتين بلون أخضر أصلي.. والوجبة الأساس كاسة من الصعتر المحلّي والزيت البلدي الأصيل ولم تخلُ المأدبة من صحن اللبنة البلدية الناصعة البياض المغرق سطحُه برشة الزيت العزيز اللذيذ.. 
    يكفي ذلك المشهد ليشدّ الزائرين باتجاه المزيد من الفضول.. فضول الحكيم بمعرفة مصير مريضته.. والفضول لهذه الجلسة الرومانسية في أحضان الحبيب وسط بيئة زراعية فطريةٍ جاذبة لهؤلاء ممن ضيّقت عليهم أوضاع المدن أو الأحياء الكثيفة السكان بازدحامها وتلوّثها.. وامام ذلك لم يندما على المجيء بل صارا ينظران بعين الرضى الى بيئة ندر نظيرها..

  *******************
   عوامل جذب لاسلكية تسحبه سحبًا باتجاه المنحنية..
   هو النقاء أوالصفاء أو الطبيعة المعطرة برائحة التربة
   هوالعشب الغضّ ناشرًا خضرته ريحًا كالروح..
   نسيم الصعتر أو النعناع أم البخور..
   سكون هاديء.. وزقزقة تعزف حوارًا ونجوى..
   كلّ ذلك كاد يخرجه عن هدفه.. لو لم تهمس المرافقة ..
   لو لم يقترب من العتابا والميجانا..
   ووجمت العجوز متفاجئة.. حكيم حكيم يا حكيم..
   شو هالزيارة الحلوة! أهلاً يطول عمرك يا آدمي..
   قالوا لي ولمست بأيدي تسلم تسلم إيدك..
   كان صوتها لا تشوبه شائبة.. غير تواقيع السنّ..
   لم يكن بحاجة لكثير من الشرح ليدرك انها بصحّة جيدة
   فكّر.. لعلّ الدواء أعطى مفعولًا ناجحًا منجّيـًا..
   اهلًا يا بنتي.. لمّا شفتك حبيتكِ.. الله يوفقكِ من عنده..
   تفضلوا تفضلوا.. وأشارت الى كرسيين من القش منخفضين..
   وفضّلا ان يجالساها ليكونا بمستواها..
   نعم هناك ذهول مفرح.. وسرور مبهج..
   وطلع عن صمته سائلاً  كيفكِ ياست "لبنى"؟ 
   هكذا ورد اسمها في الأرشيف الأبجدي القديم..لا يعلم أكثر..
  
*******************
   تنهّد صاحبنا وعبّأ صدره بشهيقٍ عميقٍ مفعمٍ بعطر الصعتر والزيتون.. وراح يتفحّصها بتأنٍّ.. صحيحة!! خير مما كانت عليه ذلك اليوم.. ولم يبق له إلاّ أن يسألها مستدرجًا: 
   -كيف الصحة يا  خالتي؟ 
   أجابت باستطراد واسهاب:
   - يرحم أمواتك الرب يكثر من أمثالك، حسيت قبل ما أقصدك أنك حكيم شاطر.. والاّ كنت استغنيت عن الطب كلّه..  ورقتك يا حكيم أصابت وخلصتني من الأوجاع.. وكما ترى نعمة من ربنا، تفضلوا كلوا معي زيتونات تمجّد الخالق..
   سألها:
   -كيف كان الدواء؟ فادك؟
   -أي دواء؟ الرب يحميك ورقتك الشافية!!
   بدا له ان سوء التفاهم طبيعي مع هؤلاء العجزة..
   -كيف شربتِ الحبوب ؟
   أجابت بتظهير الفهم والتجاوب:
   -أخذت كل ما كتبته بالورقة على الآخر.. وكما قلت حضرتك ثلاث مرّات في اليوم.. والله من أوّل يوم حسّيت بتحسن.. أوّل يوم مزقت منها قطعةً كبيرةً حتى تعطي المفعول الأكبر.. وحتى اقدر ابتلعها لفيتها بقوّة، وكتّرت من الماء.. وبعدها شربت زهورات ساخنة.. وفي اليوم الثاني صرت صغّر الورقة وتبتلع معي بسهولة وفي اليوم الثالث كدت انسى آخذ الورقة لو ما الرب نبّهني وكان في القطعة كتابة قوية نفعتني كثيرًا.. وبقيت هكذا الى ان انتهت الورقة على الآخر.. كنت أحاول ترك قطعة منها احتياط للمستقبل انما نسيت.. واتكلت عليك تكتب لي غيرها اذا اضطررت.. وانا ما قصّرت من ناحيتي ضوّيت شمعة بين يوم ويوم.. ونشكر الرب وتسلم يديك يا حكيم.. والحكيم لازم يكون عنده حكمة، ما كلّ واحد عنده ايّاها..

*******************
   اندهش صاحبنا مذهولاً ..  وشعر بنفس الشعور الذي شعره مرةً في أحد المعابد التاريخية الذي رغبت عائلته أن تزوره.. والغرابة الأكبر أنّه طبيب متعلّم مطلع على كثير من الدراسات الحديثة ولم يقصّر بمتابعة آخر اكتشافات العلماء وبكلّ الوسائل الممكنة حتى لو استدعى الأمر السفر الى أقاصي الأرض ولو في الصين.. تلفت الى الممرّضة المذهولة التي كاد شعرها يقف من شدة القداسة التي شعرت بها.. وبدت عيناها تهمّان بذرف الدمع.. وراحت تتجنّب الانكشاف بالتلفّت الى البعيد، وتتحوّل الى غيمة بيضاء تتهادى محلّقة فوق الرؤوس.. وأشعة الشمس ترسم انوارًا وتحيك أفياءً..
   وقبل أن يستيقظ من ذهوله.. بادرتهما بالقول:
   - احتفظت لك يا حكيم بزيتون مكبوس على يديّ مقطّف حبة حبة.. وقلت لن يأكله إلّا انت..
  - لكن كيف صحيّت..ي؟؟
  - بفضلك يا حكيم والاتكال على الرب.. لا يموت الانسان الّا في وقته.. أو اذا كان مقتنعًا بأنه ما عاد لازمًا في الدنيا..
  وكاد أخونا يخرج من ثيابه.. ورفع الصوت مستذكرًا ما كان قد سمعه في يوم من الأيّام: ايمانكِ شفاكِ ايمانكِ شفاكِ..
  قاطعته: الحياة قناعة يا ابني.. وانا بعدني لازمة..
  التفتت الى الأطفال.. اسمعتهم صوتها: صار وقت الدرس لا تكونوا مثلي أمّية لا أقرأ ولا أكتب..
  انتصبت وأحاطت بساعديها جذع شجرة الزيتون وقبلتها..
   
الفصل الأخير 
*******************
  "باركينا يا خالتي يا ""لبنى" باركينا انتِ "
  "مباركين مباركين موفقين موفقين.. يفرّحنا منكِ يا بنتي.."
  خرج الحكيم من المكان قبل ان يخرج من طوره.. حاملًا هديته الثمينة.. وانسحب بكثير من الهدوء والبطء بسيارته..
  مساءً.. لأول مرة كان الحكيم يتصفّح مواقع الكترونية صديقة وغريبة.. وينقّب عن تفاسير وتجارب حول العالم.. ويخطّ الملاحظات اللازمة المحيطة بالموضوع.. ويبدي تجربته المدهشة..
____________________________________________ 
   سكت الراوي.. ونزلاء السهرة الكبار قبل الصغار مذهولون بدورهم ومسحورون بحديث هذا الحكواتي وبالمضمون الذي الذي سمعوه.. ولأوّل مرة منذ فترة طويلة ارتخت سواعد الحاضرين بما تحمل من أجهزة وسائل الاتصال الالكترونية.. وقال.. اهتموا بالورق اهتموا بالورق فالورق يشفي.. ولا تغفلوا الحاسوب .. 
  
                                         ( بيد : سعد ديب)  يحيي القاريء
   


الثلاثاء، 12 أبريل 2016

الشعر والشعر

          مقال :  الشعر.
     ...وخلق الله الانسان.. وخلق له شعرًا
     واحتار بأمره..
     ربطه بعدما استطال..
     غسله بعد اتساخ...
     وكان ذلك أمرًا مفيدًا..
     واخترع الانسان مقصّـًا
     في البدء كان المقصّ حجريّـًا..
     فقصّه..
     حلقه حتى الجلد..
     منهم من اقتلعه من رأس العدوّ
     اقتلع معه جلد الرأس!!
     منهم من أطاله حتى وصل الكتفين..
     منهم من أوصله حتى الخصر
     قليلٌ  استطاع إيصاله حتى الركبتين..
     منهم من جعّده عندما اكتشف شعرًا مجعّدًا ..
     منهم من سبّله كما تساقط ماء الشلال ..
     منهم من رفعه ملتفّـًا لغاية التطويل ..
     ومتى اكتشف الانسان للشعر ألوانًا، لوّنه ..
     منهم من شقّره.. منهم من ذهّبه ..منهم من حمّره
     منهم من صفّره، منهم من سوّده ..
     ولكل لونٍ معنى .. والألوان كثيرةٌ،.
     والحياة بعض الأحيان طويلةٌ
     ولدى البعض الآخر قصيرةٌ
     ومرّت دهورٌ.. واحتار بأمره..
     فغضب الانسان ، فرفعه متوتّرًا..
     وضجر البعض الآخر فأكثر الدهون..
     واخترع من الأشجار دهونًا.. فدهنه
     واخترع من شحوم الحيوان إلصاقًا.. فألصقه..
     واستخرج من الثمار عصيرًا.. فرطّبه..
     وصنع من عناصر الطبيعة صابونًا.. فنظّفه..
     منهم من نظّف كثيرًا..
     منهم من نظّف قليلًا.. أو أهمله..
     واحتار بأمره..
     وكان في الهواء غبار..
     وكان في الرؤوس دهونُ
     تعاشق الدهن والغبار والقشور والشعر..
     واحتار بأمره ..
     اخترع الانسان عصائر و مساحيق
     واخرج من الزيتون زيوتًا ..
     و حوّل الزيوت علاجًا..
     وكان من بين الناس أصلع..
     والصلع غير قليلٍ ..
     واحتار الأصلع !!
     راح الأصلع يفتش عن شعرٍ؟؟
     راح البعض ينظم للصلع مديحًا وتقريظًا..
     راح البعض ينسج للصلعة شعرًا..
     فحَبَك من شعور الآخرين قبعةً..
     ونسج آخر من وبر الحيوان غطاءً..
     غطّى البعض صلعته..
     وحجب البعض شعره
     وحجبت بعض النسوة شعورهنّ..
     وحجّب بعضُ الرجال النساءَ
     ووجد بعضُ الناس في الشعر عورةً
     ووجد البعض الآخر بالشعر مشاعرَ...
     وبعض المشاعر يجب أن تُحجب .. فحجب الشعرُ..
     وللعورة شعور وشعرٌ ..
     ومنهن من أطالته من فوق وأزالته من تحت ..
     وشعور الناس متنوعة ..
     منه ما ينبت في الصدر
     منه ما ينبت في الظهر ..
     منهم من اعتبره رجولة ..منهم من اعتبره زائدًا..            
     ومنهم من وجده زينةً
     وسُمّي فاقده أزعرَ ..
     وسُمّي الأزعر فاحشًا ..
     وفيما وجد البعض في الشعر فحشًا..
     وفيما احتجبت بعض النسوة
     أطال بعض الرجال لحاهم
     ورأى البعض طول اللحى زينةً
     ورآها البعض إطالةً للمشاعر ..
     فمدّده.. وشكّل بعض الرجال لحاهم
     منهم من أطالها كثيرًا
     منهم من أظهرهاقليلاً
     رسم للّحيته خطوطًا.. وتباهى بها
     وكانت للبعض متراسًا.. فمترس خلفه ..
     ووجد البعض في اللّحية سلاحًا.. تسلّح بها
     ووجد البعض فيه تشبّهًا.. تشبّه بها..
     وكان للّحية تراثٌ
     ورث البعض هذا التراث
     وصل بعضهم الشعر بالشعر
     فغطى الشعرالرأس والوجه ..
     فأنشغل هؤلاء في الأعلى
     وانشغلت أولئك في الأسفل ..
     اخترعن الوسائل لإزالته
     واخترعوا الوسائل لانباته ..
     وابتدعن السكّر
     والسكّر حلوٌ
     جمّلوا السيقان.. فصارت السيقان لمّاعةً
     وبعض السيقان كالمِرآة ..
     يحبّ الأزواج ذلك ..
     وأكثر النساء السكّر
     وأكثرن الحلوَ ..
     اخترع الرجال الشفرات
     أزالوا شعر الذقن واللّحية
     وأزالت بعضهنّ بالشفرات شعر السيقان
     وأزلن أيضاً شعر غير السيقان ..
     واخترع بعضهم أدويةً و معاجين لإزالته
     فاستخدمنَها ..منهن كثيرًا ومنهنّ اعتدالًا
     اعتمد المبتكرون الأشعة الضوئيةَ
     فكانت تلك الأشعة لإزالته ..
     وافتتح البعض عياداتٍ لإنتزاعه..
     فدفعن من المال الوفير
     منهنّ من تردد كثيراً
     منهنّ من اقتنعن
     منهن من امتنعن ..
     وزعم البعض القدرة على إنباته
     منهن من خدع.. منهن من انخدع
     لكن هناك من نجح
     وصار للإنبات مختبرات وأدوية
     أنفق البعض الكثير..وتجاهل البعض الآخر..
     ولشعر الناس مؤسسات.. سمّاها البعض عيادات
     وسُمّي الذي يعالجه مزيّنًا
     وسُمّي البعض حلّاقًا.. لأنه يحلق
     ورأى البعض في الحلاقة حلاوةً و تحليقًا..
     فحلّق البعض.. وتحلّى البعض الآخر..
     بعضهنّ علّق الى جانب الشعر حلقًا
     والحلق تحليق وطيران وارتفاع ..
     وسُمّي البعض طبيبًا.. يطبّب الشعر
     والغريب أن الطبيب من تبّ.. أي قطع
     والتبّ قطعٌ و قصّ  .. والقصّ للشعر
     والشفرة مديّة قاطعة ..
     وبعض القصّ قصاصٌ.. ولبعض القصّ قصةّ
     والطبيب يتبّ ..يزيل المصابَ
     لعلّ في القطع شفاء ..
     وبدا الشعر للبعض نباتًا
     والنبات ينبت
     عمل البعض على زرعه في جلد الرأس
     فنبت كما الشتول
     والشتول تبغي المدّ بالسماد والماء
     فكان للشعر مزارع ...الخ الخ
     وكان الله قد خلق الإنسانَ
     وكان قد خلق له شعرًا
     وهو محتار بأمره ..
     ففي الشعر شعورٌ ومشاعرُ
     والشاعر يشعر
     والشعراء كثر
     منهم من نطق ومنهم أُسكت.. فصمتَ
     منهم من أطال كما الشعر الطويل ..
     ومنهم من قصّ رأس الشاعر، ليس شعره..
     ومنهم من نتف شعر الشاعر كما ينتف بعض الشعر..
     وكان منهم من مدح ومنهم من هجا
     ومنهم من عاش ومنهم أعدم ، ومنهم من مات ..
     وبدا الشعرُ شعورًا
     ورأى البعض أن يكبته.. ولا يكتبه
     ورأى البعض.. أن يسكته
     شنق البعض البعضَ ..
     وهرب البعض لأنّ لديه شعرًا
     وبعض الشعر يتطاول فيفتن
     وبعض الشعر يطول فيفتن
     وبعض الشعر يحلو
     وبعض الشعر حلوٌ
     وللبعض شاربٌ ..
     وجد في الشارب علامةً
     وتلك العلامةُ رجولةٌ
     والرجولةُ للذكور..
     فأطال بالشنبين حتى الأذنين
     تفنّن.. فكان الشنبان علامة نصرٍ.. منتصبين
     أو تفنّن فكان الشاربين كمن يشرب منحنيًا..
     منهم من حفّوا الشارب وحلق الخدين ..
     منهم من حفوا الشارب و عفّوا عن اللحى ..
     وكان الله قد خلق الحيوان
     وخلق لبعض الحيوان شعرًا
     كما خلق للبعض شاربين
     ولم يحترْ بأمره
     وكان للبعض.. كثّــًا..
     وكان للبعض وبرٌ..
     وما حار بأمره.. ولا احتار لشأنه ..
     أخذ الانسان منه الوبرَ ..حاك منه كساءً
     وخلق للبعض صوفًا.. ولم يحترْ لشأنه
     وجزّ الصوفَ وحاك منه لباسًا
     وخلق الله الطير وخلق له ريشًا
     وحلّق الطيرُ بالريش.. ولم يحلقْ
     ونتف الانسان ريش الطير
     وصنع للنتف آلةً
     وخلق الله الأسماك ..
     فكان للأسماك حراشف ..
     سبحت الأسماك .. لا دارت ولا حلّقت
     برش الأنسان الحراشفَ
     أكل اللحوم و رمى الحسك ..
     *****
     وهكذا يمضي العمر
     وهو محتار بأمره
     والشعر شعورٌ
     كثيف في الصغر .. أسود غالبًا
     تسريحه جميلٌ أو غريبٌ
     أو ملوّنٌ بألوان عديدةٍ
     يدوم لدى البعض
     أو يصلع أويجلح لدى البعض
     يشيب لدى البعض ويسودّ لدى البعض
     فيزرعون  أو يصبغون
     ويذهب الشعر معه الى هناك
     حيث تتوقّف مشاعر الحيّ
     وتبدأ مشاعر الآخرة
     منذ الأزل.. لا يزال الانسان يحتار
     والى متى يبقى يحتار بأمره ؟؟
     الحيرة بشأن الشعر و الشعر و الشعور
     الحيرة بشأن الأبد والأبدية
     فيصنع لذاك علاجًا
     ويبدع لذلك فلسفاتٍ
     لبس ثوب العيش لم يستشرْ
     وحار فيه بين شتى الفكر
     وهكذا يمضي العمر ..
     والإنسان يملأ.. العمر ..
     وبعض العمر مديدٌ
     وبعض العمر فارغ  ..
     وبعض العمر مجهولٌ
     ولكن .. لكلّ شيءٍ  آخر......
                  (  سعد  ) كانون الثاني ٢٠١٤
 

الخميس، 31 مارس 2016

اللباس بين الفتق والرتق

البنطلون بين الفتق والرتق
::::::::::::::::::::::::::::::::::::
   بعدما تبيّن لنا تلك العلاقة بين عناصر صناعة اللباس من حياكة وحبك ونسج، وبين نقيضها، لا بد من تناول عنصر الفتق المعادي للدرز والموازي لتمزيق البنطلون والألبسة.. علّنا نجد المزيد من الفوائد اللهجية اللغوية الناتجة عن دراسة هذه الظاهرة..
   استعراض الجذر "فتق" يؤدّي بنا الى ما يلي:
    
   أولًا: معنى فتق في معجم اللغة العربية المعاصرة فتق يفتق ، فتقا ، فهو فاتق ، والمفعول مفتوق• فتق الثوب : شقه ، نقض خياطته حتى فصل بعضه عن بعض { أو لم يرَ الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما } : وفتق السماء يكون بالمطر والأرض بالنبات . 

  معنى فتق في تاج العروس
فتَقه يفْتُقه ويفتِقه ومن حَدّيْ نصَر وضرَب فتْقاً : شقّه وهو خلاف رَتَقَه رتْقاً . وهو الفَصْلُ بين المُتّصِلين . قال الله تعالى : (كانَتا رَتْقاً ففَتَقْناهُما) قال الفَرّاءُ : فُتِقَت السّماءُ بالمَطَرِ والأرضُ بالنّباتِ . وقال الزّجّاجُ : كانَتِ السّماءُ مع الأرض جميعاً ففَتَقَهُما اللهُ بالهَواءِ الذي جعَلَه بينَهما..
   بدايةً، ارتبط "الفتق" بعملية ربّانية وكونية، تتراوح بين السماء والأرض.. وهي فصل بين متصلين..أولهما ان المفتّق يسعى الى الفصل بين لحمه ولباسه.. و(اللحم التحام).. 
  تاليًا، هل في نوايا هؤلاء الفتّاقين منحى كونيّ.. يا ترى؟ أو منحى ديني؟ وماذا في بواطنهم.. وهل البواطن تعبّر بالفيلولوجيا دون دراية العقل الواعي؟ الأمر متروك لأصحاب الاختصاص..
  وقد يكون الفتق بين القوم فترجع الحرب بينهم، أو اخصاب المكان،  وانكشاف الغيم عن القوم، وظهور قرن الشمس من بين السحاب، أو انفراجه السحاب، و سمن الماشية، والخصب وانشقاق الأرض بالنبات، والأمكنة متسعة اذا فتقت، بل هو الصبح نفسه، وقرن الشمس وعينها، ومشرقها..
   بعد هذا العرض من "المنجد"، نرى أن العملية متعدّدة الجوانب والنواحي.. فهي كل العناصر المجازية التي تتواصل مع الانفراج بين الأطراف الملتصقة.. بل انّ لابس  المفتق ساعٍ للافراج عن شيء ملبوس.. ويرغب بالفرج والانفراج بالذات..
  ويضاف اليه. تنقيح الكلام وتقويمه، ونطقه، لذلك فان إمرأة فتقٌ متفننة بالكلام، وحديد اللسان فتيقٌ..
   ولا يغرّنّ انّ مرتدي اللباس هو متفنن بالكلام بقدر ما هو يستعير التعبير بفتق الرتق.. بل يسعى الى النطق بفنٍّ مرئيّ ايمائيّ غير مسموع..
   ولنا ان نرى في الفتق هو اختلال في العيش، وهو الجدب، وقلّة مطر، وآفات ومرض وجوع وفقر ودَين.. وكلّ ذلك صحيح متى تحدّثنا عن الممزّق والمفتّق المرغم..
   ونحن احرار ان نتهم هؤلاء بالمجاديب، والمجدوب هو أصلًا من جدب الأرض.. وبالعكس ربما يسعى أحدهم للانجذاب نحو فكرة مميّزة، لاننا ما نزال نقول " تفتّق ذهنه عن فكرة أو حل.." دلالة على الابداع. 
   طيّب، لماذا وجدت العربية أن الفيتق هو الملك؟ طبعًا بسبب الايجابيات الواردة أعلاه.. ولا نستغربنّ ان الساعين نحو هذا الزيّ هم من الملاكين الاغنياء عمومًا، بل هم المروجين لهذا الزيّ.. مع العلم أن اللفظة الواحدة تتضمن المعاني المتناقضة في العربية وسواها من اللغات (بسبب الانقلابات بالمواقف والفلسفات والسياسة التي شهدتها البشرية عبر التاريخ..)
   على كلٍّ، ذلك دافع للعربي لادراك ماذا حوت لغته في طيّاتها أكثر مما في طيّات البنطلون الممزّق..

من الفتق الى الفتك:
   التقارب بين اللهجتين كافٍ لتعقّب المعاني اللازمة لمعرفة أبعاد هذه الأزياء المفتقة، وما تكشفه من بواطن الأمور..
   في القاموس، نجد أن الجذر "فتك"  يفيد الفتك بالعدو وقتله مجاهرة واغتياله والبطش به، وبالتالي فان الرجل اذا فتك فإنّه يكون شجاعًا مقدامًا يركب ما همّ من الأمور وما دعت اليه نفسه، بل قد يكون قد فتك بالخبث ومضى فيه وبالغ، أو مجن في سلوكه، أو مهر بصناعته، الى ما هنالك من المعاني المجازية التي تدور حوله..
  وهنا لنا أن نستنتج.. أن فتق البنطلون يعبّر عن كلّ ما أعلاه، وان الفتّاقين فتّاكون بطّاشون  مقدامون خبثاء مهرة.. في مواجهة عدو وهمي على الأرجح.. كأنّما الانسان قد حمل جيناتٍ عدوانيةً لم يتخلّص منها بعد..

الرتق:
   من الفتق الى نقيضه، الرتق.. بدايةً نجد أن الأرض والسموات كانت رتقًا.. ففتقتا..
   وكما سبق، نجد ان الرتق هو سابق للفتق..
   يا ترى، كيف كانت الأمور؟ في الرتق سدّ ولحمةٌ خياطةٌ وإصلاح البين، وانسداد والتئام الجرح..
  وإذا ذهبنا باتجاه الجنس فإنّنا نصادف  أنّ الرتق في المرأة هو التحام في الفرج يمنع من وطئها وهو من العيوب المجوزة لفسخ عقد الزواج، وتسمى رتقاء..
   لذلك، أمام ما تقدّم نرى في الفتق والتمزيق هو اعلان جنسي لدى المرأة عن امكانية الوطء والخلو من العيوب، عدا ما يقدّمه لنا الجذر "لحم يلتحم" من أبعاد تناسلية، بالاضافة للأبعاد الكونية والخليقة، تعود الى فتق السماء والارض..
   بل، في الفتق رفض للاصلاح والمصالحة بين المتباينين المتباعدين، لان الرتق خياطة.. مما يجر باتجاهات إضافية..

الخياطة:
   ماذا في الخياطة، النقيضة للفتق، ولهجة "خاط" كأنّها "حاك"، ولكن أول ما يتبادر على ذهن العربي الشرقي جملة "عايز تخيّط" التي تحمل معانيَ جنسية علنية.. وتتناقض مع  الفتق، كأنما الشرقي يسعى لرتق ما فتق..  نعم، في الامر أضداد تصب في نفس الاتجاه.. وبالتالي، قد يكون اللباس المفتق دعوة جنسية باطنية، لرتق ما فتق، ويسعى البشر للتعبير عنها كتعويض عن حرمان مكبوت، أو انفعال وإثارة.. 
    والجذر خاط  يبدأ بخياطة الدرع أي سردها، والدرع هي للدفاع والدرأ (لهجة من درع) ثمّ ينتقل الى خياطة البعير بالبعير، إذا قرن بينهما، أي ان الخياطة هي قران، وازدواج، وزواج، قبل أن يذكر القاموس ضم اجزاء الثوب الى بعضها بخيط، أما الذي خاط الليل والنهار ذاك الذي نشط فيهما ولم يخلد الى الراحة.. وكذلك فأن الحية اذا خاطت انسابت في الأرض بسرعة..  وكانما يجب أن لا تغيب الحية عن الموضوع، والحية معروفٌ رمزها في الميتولوجيا.. ونذكر أنه يمكن أن يستخدم هذا الجذر كما في خطّ يخطّ، أي كتب يكتب..

السبت، 26 مارس 2016

فصل اضافي عن البنطلون الممزق

البنطلون لباس محاك
-------------------
   بعد كل الرموز التي تجلّت في اللغة العربية ومنها، وأدّت الى التوصّل لمعلومات جمّة ومفيدة، صار بالإمكان التوغّل أكثر، في تفاصيل، الأردية والألبسة، علّنا نكشف المزيد مما غطس في العقل الجمعي البشري، دون دراية واعية بالأعماق الباطنة، التي تترصّد اللحظة المناسبة للخروج الى العلن بالتصرّفات العفوية.. مثل البنطلون أو اللباس الممزّق.. 
  من المعروف، ان اللباس على انواعه، هو مصنوع، حبكة محبوكة، نسيج منسوج، محيّك مُحاك، وفي الأصل ان الالبسة هي خيوط جرى حبكها أو نسجها.. الخ
  فماذا تقدّم الفيلولوجيا العربية لدى دراسة هذه الكلمات لكشف بواطن البشر، التي تتصرّف اجتماعيّـًا بغير وعيٍ منها، وتروح لارتداء الممزّق من الأردية!؟!

حبك
  لنبدأ بالمرجع القاموسي للجذر (حبك) كما يلي:
المرجع (تاج العروس) 
الحبكُ : الشَّدُّ والإِحْكامُ وِإجادَةُ العَمَلِ والنّسج وتَحْسِين أَثَرِ الصنعَةِ في الثَّوْبِ يُقال : حَبَكَه يَحْبِكُه ويَحْبُكُه من حَدّىْ ضَرَب ونَصَر حَبكاً : أَجادَ نَسجه وحسَّنَ أَثَرَ الصَّنْعَةِ فيهِ كاحْتَبكه : أَحْكَمه وأَحْسَنَ عَمَلَه فهو حَبِيكٌ ومَحْبوك ..
   بداية هو صناعة حسنة، والتمزيق هو تمزيق  لهذه الصناعة.
   وحبك الحبل فتله فتلًا شديدًا، وحبك الشيء شدّه وأحكمه، وعمل محبوك متقنّ، وحبك المؤامرة أحكم خطتها، حبك الثوب أجاد نسجه، حبك القصّة اتقن صياغتها، حبك الإمر أحسن تدبيره، حبكه بالسيف ضربه على وسطه..
  وهكذا نجد، ان تمزيق الثوب هو تمزيق للاعمال المتقنة، طبعًا هذا الأمر واضح منذ اللحظة الأولى، وهو تمزيق للقصة المحبوكة، وهذا الذي حصل فعلًا اذ راحت الاعمال القصصية تخرج عن المألوف وتمزّق التقليد، ولكن الأكثر دلالة هو تمزيق للمؤامرة وللخطة المحكمة المحبوكة.. وتلك العملية تصبّ حقّٓـًا في رغبة الأجيال الحالية المتمرّدة لاسقاط المؤامرات المحبوكة.. كأننا نجد ان العقل الباطن قد عبّر عن رغباته باستظهار عامل التمزيق في اللباس المحبك.. وما يقال عن الحبك بالسيف والضرب على الوسط جاء ليصبّ في خدمة اعتماد الأساليب العنفية لاسقاط المؤامرة.. بالإضافة الى أن تمزيق المحبوك هو فك الإرتباط.. لان الحبك ربط، وبالتالي نجد ان الشعوب تعبّر عن رغبتها بفصم ارتباطها باللباس السابق.. واللباس لبس، فهي تسعى لكشف اللبس الذي يقف حائلًا بينها وبين العالم..

حاك
  من حبك الى (حاك)، وقاموسنا الغني ماذا يقول:
  حاكَ في يَحُوك، حُكْ، حَوْكًا وحِياكةً، فهو حائك، والمفعول مَحُوك

• حاك الثَّوبَ ونحوَه: نَسجَه "حاك الصّوفَ".

• حاك الشَّاعرُ قصيدةً: نظَمها.
• حاك مؤامرةً ونحوَها: دبّرها وخطّط لها "كانت الدسائسُ تحاك حوله، حاك الخطّة ببراعة".
   اذًا نستطيع القول، ان التمزيق الساري المفعول، موجّه ضد الدسائس التي تحاك حول المرء، ولاسقاط الخطّة المحاكة ببراعة.. ونجد في ذلك التمرّد على مسار الأمور في هذا العصر.. وكذلك لنا في حياكة القصيدة نظمًا، كأنّما اللغة أدركت تلك العلاقة بين حياكة القصيدة والثوب، فعمل الجيل المعاصر على تمزيق الثوب المحاك والقصيدة المنظومة عن غير وعيٍ منه.. وخاصةً اذا حاك الشيء في الصدر ورسخ وصار  يجب استئصاله.. ولكن عندما نجد في الجذر معنى التشابه يعني أن التمزيق يسعى الى التمايز والتخلّص من المحاكاة.. والمشكلة المعترضة هو انتشار الزي المتشابه مما يسقط التمايز بين ابناء الجيل الواحد.. فكما يبدو ان التمايز غايته التخلّص من التقليد والنمطية وقصص محاكة (محكية) لعصر بكامله.. 
   ومن الناحية اللهجية يتواصل الجذر حاك مع (جاك) الذي يمكن أن نأخذ منه كلمة الجاكيت.. بالاضافة الى أن في الحكّ احتكاكًا واتصالًا.. وفيه حكيٌ، وقصّ مع ما يعني القصّ، من تمزيق.. 

نسج

  معنى نسج في لسان العرب النَّسْجُ ضَمُّ الشيء إِلى الشيء هذا هو الأَصلُ نَسَجه يَنْسِجُه نَسْجاً فانْتَسَجَ ونَسَجت الريحُ الترابَ تَنْسِجُه نَسْجاً سَحَبَتْ بعضَه إِلى بعض والريحُ تَنْسِج التراب إِذا نَسَجت المَوْرَ والجَوْلَ على رُسومها..
    وفي مختار الصحاح ن س ج : نَسَجَ الثوب من باب ضرب ونصر والصَّنْعة نِسَاجَةٌ بالكسر والموضع مَنْسَجٌ بوزن مذهب ومَنْسِج بوزن مجلِس و المِنْسَجُ بوزن المِنْبر الأداة التي يُمد عليها الثوب ليُنسج وفلان نَسِيجٌ وحده أي لا نظير له في عِلْم أو غيره وأصله في الثوب لأنه إذا كان رفيعا لم يُنسجْ على مِنواله غيره..
  ونختار من تاج العروس: من المجاز : نَسَجَ "الكَلامَ" . إِذا "لَخَّصَه " والشّاعرُ الشِّعْرَ : نَظَمَه، وحَاكَه الكَذّابُ الزُّورَ : "زَوّرَه" ولَفَّقَه ...
   من الواضح، ان الجذر الذي يُعنى بصناعة اللباس، قد يستخدم في صناعة الكذب والتلفيق والتزوير، من هنا نفهم السعي الدؤوب لتمزيق الزيف.. وتمزيق النظم (منه النظام والتنظيم).. 
  لا غرابة لان نسج يتواصل مع لهجة (نسق) لان ج=ق، والنسق نظم.. وعلى وتيرة واحدة، وتشابه..
   (اما الترادف مع "نصر" فله شأن هام بعيد عن موضوعنا)
   •• من هنا التعليق على المرادفات أعلاه.. ان الوعي الداخلي للانسان راح يعبّر بهذه الحركات برفض النسق المتبع في العالم، لان الزيَّ قد انتشر وسيطر عالميّـًا، وخاصة لدى الجيل الشاب على مختلف اعراقه، وخاصةً ما يتعلّق منه بحياكة المؤامرات وحبكها ونسجها مهما كان الكلام المنظوم لم يعد يخدع..
  ولكن الغريب، اننا نتعاطى مع واقع أميركيّ، وتبدو بوضوح أن العملية أميركية أميركية، وبالتالي فان الصراع يدور فيها وعليها.. مع كلّ ما يحتمله التاريخ من سيّئات نشرتها في العالم.. ولنا أن نقول أن في الأمر انسجامًا بين التحليل الوارد في القسم الأوّل والتحليل اللهجي للغة العربية، بامتياز مميّز.. بل، لنا ان نجزم اننا في عصر التفكيك والتركيب، وما البنطلون إلّا ظاهرة رمزية صغيرة ذات معنى عظيم..

الاثنين، 21 مارس 2016

القمر
-------
هناك في الشرق.. أحبّ أحدهم الليل.. ويقال أن الذين أحبّوا الليالي هم كثرّ.. ويبالغ البعض فيرى أن شعوبًا بكاملها كانت تعبد الليل.. فنظّموا له طقوسًا وتقى.. رسخت في عادات وتقاليد وفلسفات.. فكان منهم من يصحو طوال الليل.. كمن ينتظر لقاءً.. ومنهم من يقيم الرقصات.. لانّ الرقص رقيٌّ.. يشعلون النيران.. يصطلوها.. لانّ صلي النار صلاة.

حسبوا لكلّ ليلة حسابًا.. ولكلّ حالةٍ حالًا.. وأبرز الحالات متى يحول القمرُ.. أو يكتمل، أو يهلُّ، أو يختفي بخسوف فيمّحى فيدعوه بالمحاق.. أو يختفي خلف غيم.. ولكل غيم في تلك الليالي أسم.. والغيوم سحبٌ.. وفي السحب حبّ.. وفي السماء العالية سماك.. والسماك عالٍ.. فإذا تلألأ في ضوء القمر كني باسمٍ، وإذا تكثّف كُـني باسمٍ آخرَ.. وإذا اسودّ سُوّد اسمه..  وهكذا نسجوا لليالي فلسفاتٍ وأقدارًا..

 والنجوم! لا ننسينَّ النجومَ.. رغم صغرها، بل بعدها..كانت وما تزال تحمل هويةً.. وموضع رصد واعتبار.. فذاك أسدٌ، وذاك ثور، وذاك دبٌ أكبرُ، وذاك أصغرُ..

وكانت النجوم ولا تزال تحكي.. حكواتية.. مخبرات.. ومتوقعات.. منجّمات.. ولكلّ نجمةٍ منجّمٌ.. ولكلّ غيمةٍ توقّع وتوقيع.. ولكلّ ريحٍ نبؤةٍ.. هكذا الناس.

 أمّا القمر، حدّث ولا حرج.. يرعى البشر.. ولا نغفلنَّ "رع" راعيَ الكل بل رائيهم.. إلٓه يلد ويولد ويتوالد أبدًا..
 هو اللألأ واللؤلؤ.. هو النور والضوء
 هو الذي آل دائمًا وآل كلّ ليلةٍ..
 في تلك الليلةِ.. تناهى الى مسمعيّ.. وشوشاتٌ قادماتٌ من بابل الرافدية.. من الألفية السابعة الماضية.. كانت تدور بين صبيةٍ مراهقين.. محورها: 
 " انها ليليت الليلية المثيرة الجميلة زارتني ليلًا.. كما زارتك، انها السيدة السائدة الباقية عبر العصور.."
 ثم انقطع الارسال.. وغابا عن السمع..!!