السبت، 26 مارس 2016

فصل اضافي عن البنطلون الممزق

البنطلون لباس محاك
-------------------
   بعد كل الرموز التي تجلّت في اللغة العربية ومنها، وأدّت الى التوصّل لمعلومات جمّة ومفيدة، صار بالإمكان التوغّل أكثر، في تفاصيل، الأردية والألبسة، علّنا نكشف المزيد مما غطس في العقل الجمعي البشري، دون دراية واعية بالأعماق الباطنة، التي تترصّد اللحظة المناسبة للخروج الى العلن بالتصرّفات العفوية.. مثل البنطلون أو اللباس الممزّق.. 
  من المعروف، ان اللباس على انواعه، هو مصنوع، حبكة محبوكة، نسيج منسوج، محيّك مُحاك، وفي الأصل ان الالبسة هي خيوط جرى حبكها أو نسجها.. الخ
  فماذا تقدّم الفيلولوجيا العربية لدى دراسة هذه الكلمات لكشف بواطن البشر، التي تتصرّف اجتماعيّـًا بغير وعيٍ منها، وتروح لارتداء الممزّق من الأردية!؟!

حبك
  لنبدأ بالمرجع القاموسي للجذر (حبك) كما يلي:
المرجع (تاج العروس) 
الحبكُ : الشَّدُّ والإِحْكامُ وِإجادَةُ العَمَلِ والنّسج وتَحْسِين أَثَرِ الصنعَةِ في الثَّوْبِ يُقال : حَبَكَه يَحْبِكُه ويَحْبُكُه من حَدّىْ ضَرَب ونَصَر حَبكاً : أَجادَ نَسجه وحسَّنَ أَثَرَ الصَّنْعَةِ فيهِ كاحْتَبكه : أَحْكَمه وأَحْسَنَ عَمَلَه فهو حَبِيكٌ ومَحْبوك ..
   بداية هو صناعة حسنة، والتمزيق هو تمزيق  لهذه الصناعة.
   وحبك الحبل فتله فتلًا شديدًا، وحبك الشيء شدّه وأحكمه، وعمل محبوك متقنّ، وحبك المؤامرة أحكم خطتها، حبك الثوب أجاد نسجه، حبك القصّة اتقن صياغتها، حبك الإمر أحسن تدبيره، حبكه بالسيف ضربه على وسطه..
  وهكذا نجد، ان تمزيق الثوب هو تمزيق للاعمال المتقنة، طبعًا هذا الأمر واضح منذ اللحظة الأولى، وهو تمزيق للقصة المحبوكة، وهذا الذي حصل فعلًا اذ راحت الاعمال القصصية تخرج عن المألوف وتمزّق التقليد، ولكن الأكثر دلالة هو تمزيق للمؤامرة وللخطة المحكمة المحبوكة.. وتلك العملية تصبّ حقّٓـًا في رغبة الأجيال الحالية المتمرّدة لاسقاط المؤامرات المحبوكة.. كأننا نجد ان العقل الباطن قد عبّر عن رغباته باستظهار عامل التمزيق في اللباس المحبك.. وما يقال عن الحبك بالسيف والضرب على الوسط جاء ليصبّ في خدمة اعتماد الأساليب العنفية لاسقاط المؤامرة.. بالإضافة الى أن تمزيق المحبوك هو فك الإرتباط.. لان الحبك ربط، وبالتالي نجد ان الشعوب تعبّر عن رغبتها بفصم ارتباطها باللباس السابق.. واللباس لبس، فهي تسعى لكشف اللبس الذي يقف حائلًا بينها وبين العالم..

حاك
  من حبك الى (حاك)، وقاموسنا الغني ماذا يقول:
  حاكَ في يَحُوك، حُكْ، حَوْكًا وحِياكةً، فهو حائك، والمفعول مَحُوك

• حاك الثَّوبَ ونحوَه: نَسجَه "حاك الصّوفَ".

• حاك الشَّاعرُ قصيدةً: نظَمها.
• حاك مؤامرةً ونحوَها: دبّرها وخطّط لها "كانت الدسائسُ تحاك حوله، حاك الخطّة ببراعة".
   اذًا نستطيع القول، ان التمزيق الساري المفعول، موجّه ضد الدسائس التي تحاك حول المرء، ولاسقاط الخطّة المحاكة ببراعة.. ونجد في ذلك التمرّد على مسار الأمور في هذا العصر.. وكذلك لنا في حياكة القصيدة نظمًا، كأنّما اللغة أدركت تلك العلاقة بين حياكة القصيدة والثوب، فعمل الجيل المعاصر على تمزيق الثوب المحاك والقصيدة المنظومة عن غير وعيٍ منه.. وخاصةً اذا حاك الشيء في الصدر ورسخ وصار  يجب استئصاله.. ولكن عندما نجد في الجذر معنى التشابه يعني أن التمزيق يسعى الى التمايز والتخلّص من المحاكاة.. والمشكلة المعترضة هو انتشار الزي المتشابه مما يسقط التمايز بين ابناء الجيل الواحد.. فكما يبدو ان التمايز غايته التخلّص من التقليد والنمطية وقصص محاكة (محكية) لعصر بكامله.. 
   ومن الناحية اللهجية يتواصل الجذر حاك مع (جاك) الذي يمكن أن نأخذ منه كلمة الجاكيت.. بالاضافة الى أن في الحكّ احتكاكًا واتصالًا.. وفيه حكيٌ، وقصّ مع ما يعني القصّ، من تمزيق.. 

نسج

  معنى نسج في لسان العرب النَّسْجُ ضَمُّ الشيء إِلى الشيء هذا هو الأَصلُ نَسَجه يَنْسِجُه نَسْجاً فانْتَسَجَ ونَسَجت الريحُ الترابَ تَنْسِجُه نَسْجاً سَحَبَتْ بعضَه إِلى بعض والريحُ تَنْسِج التراب إِذا نَسَجت المَوْرَ والجَوْلَ على رُسومها..
    وفي مختار الصحاح ن س ج : نَسَجَ الثوب من باب ضرب ونصر والصَّنْعة نِسَاجَةٌ بالكسر والموضع مَنْسَجٌ بوزن مذهب ومَنْسِج بوزن مجلِس و المِنْسَجُ بوزن المِنْبر الأداة التي يُمد عليها الثوب ليُنسج وفلان نَسِيجٌ وحده أي لا نظير له في عِلْم أو غيره وأصله في الثوب لأنه إذا كان رفيعا لم يُنسجْ على مِنواله غيره..
  ونختار من تاج العروس: من المجاز : نَسَجَ "الكَلامَ" . إِذا "لَخَّصَه " والشّاعرُ الشِّعْرَ : نَظَمَه، وحَاكَه الكَذّابُ الزُّورَ : "زَوّرَه" ولَفَّقَه ...
   من الواضح، ان الجذر الذي يُعنى بصناعة اللباس، قد يستخدم في صناعة الكذب والتلفيق والتزوير، من هنا نفهم السعي الدؤوب لتمزيق الزيف.. وتمزيق النظم (منه النظام والتنظيم).. 
  لا غرابة لان نسج يتواصل مع لهجة (نسق) لان ج=ق، والنسق نظم.. وعلى وتيرة واحدة، وتشابه..
   (اما الترادف مع "نصر" فله شأن هام بعيد عن موضوعنا)
   •• من هنا التعليق على المرادفات أعلاه.. ان الوعي الداخلي للانسان راح يعبّر بهذه الحركات برفض النسق المتبع في العالم، لان الزيَّ قد انتشر وسيطر عالميّـًا، وخاصة لدى الجيل الشاب على مختلف اعراقه، وخاصةً ما يتعلّق منه بحياكة المؤامرات وحبكها ونسجها مهما كان الكلام المنظوم لم يعد يخدع..
  ولكن الغريب، اننا نتعاطى مع واقع أميركيّ، وتبدو بوضوح أن العملية أميركية أميركية، وبالتالي فان الصراع يدور فيها وعليها.. مع كلّ ما يحتمله التاريخ من سيّئات نشرتها في العالم.. ولنا أن نقول أن في الأمر انسجامًا بين التحليل الوارد في القسم الأوّل والتحليل اللهجي للغة العربية، بامتياز مميّز.. بل، لنا ان نجزم اننا في عصر التفكيك والتركيب، وما البنطلون إلّا ظاهرة رمزية صغيرة ذات معنى عظيم..