الجمعة، 18 مارس 2016

فصل جديد من رمز البنطلون الممزق وفيلولوجيته

الوضع الرمزي للبنطلون الممزّق:    

      بعد عرض ومعرفة الأسباب الإجتماعية والتاريخية والاقتصادية، لا بد من ايراد الجانب الرمزي في عملية التمزيق، قبل اللجوء الى الجانب الفيلولوجي لكشف المزيد من العناصر المؤثّرة، في الثقافة الباطنية للبشر، ومدى تأثيرها ععلى العادات والتقليد وليس التقاليد..
   لا شك أن التمزيق هو عملية عنفية، تدل على حالة عصبية يلجأ اليها البشر للتخلّص من وضع مرفوض، يدعوه الى تغييره، وأكثر الحالات عصبيةً هي حالات التهييج وابرزها الجنسية، بل هي تعبير عن اعلان وكشف واقع نفسي يسعى الفرد الى ابرازه أمام الجمهور عسى أن يجد من يستجيب ويشارك في المعالجة أوالسير في التيار لتحقيق هدف يصبّ في الاتجاه ذاته..
   من هنا، يجب فهم العلاقة بين التمزيق واللباس.. ذلك لأنّ اللباس هولبسٌ والتباس.. واخفاء وستر.. للجوانب الجسدية، أو الجوانب النفسية.. 
   فمن الجهة الجسدية يلجأ الانسان الى اللباس لاخفاء عيب وتشويه وقباحة.. أو للتحصن لمواجهة التعديات على انواعها، وخاصة الجنسية منها.. ولكن، طالما كانت الملابس خاضعة لأحوال الطقس، فهي الوسيلة والأداة لمواجهة البرد في الأساس، وتجنب الرياح، والأمطار والغبار.. ومن جهة أخرى، ان الملابس قادرة على إظهار الحسنات واخفاء السيّئات، ففي كلّ الظروف، عمل البشر على أعتمادها وتلوينها، للتجميل وللعرض والاستعراض..لا بل يمكن اعتمادها لخداع الآخرين، أو استدراجهم لعلاقة غير متكافئة أو مرغوبة، وصولًا لاستعراض الغنى أو الثقافة أو الأخلاق المناسبة لأوضاع المجتمع، ومستوى تطلعاته..   
    ومن الناحية النفسية، فان اللباس محاولة لاظهار موقف نفسي أو اخفاء هذا الموقف.. اذ قد يتحوّل الستر باتجاه الاغراء أو الحشمة.. لانه ليس بالضرورة ان يكون الاغراء دائمًا بالتعرية.. لانها مشروطة بالتأثير على الناظر لحضّه وحثّه وحضنه،  أو لصدّه، وللحدّ من جموحه ودرء خطره.. 
  وبالتالي، فإنّ اللباس هو على النقيض من التعرية، فاذا كان للاخفاء والمخادعة والاستعراض، فذلك للعرض والكشف والاعلان والصراحة، فاحتلت التعرية مكانتها المناسبة في ثقافة الشعوب وفنونها باعتبارها تعبيرًا عن الحقيقة العارية، بغض النظر عن اللف والدوران الذي سارت فيه البشرية، عبر الأزمنة، لتغليف الحقائق بغلافات متعددة، حرصًا على التملك، كما تمتلك الأرض.. ولطالما كانت المرأة هي رمز الأرض وصارت تمتلك مثلها، كما في عصر الإقطاع..
   والجدير ذكره، ان اللوحات الفنية عبر الزمن قد عبّرت عن حقيقة الأمة برسومات للأنثى العارية، وشمل الأمر كل الفنون والآداب وصولًا الى المسرح، والاخراج السينمائيّ..
   من هنا علينا ان نفهم، أن تمزيق اللباس يرمز في جانب منه الى تمزيقٍ للستر والرغبة بإظهار الحقائق.. وتظهير المشاعر الباطنة، ونزع الحواجز بين البشر.. ودعوة لإزالة ما يحول دون التواصل والصلة بين الجنسين.. رغم  استمرار وجود البنطلون الممزّق بينهما..
   والجدير بالذكر، أن الجذر "لبس" من الناحية اللهجية، يؤدّي الى الاسم المشتقّ "ملبوس" كأنما الجسد هو ملبوس من قبل اللابس، ان كان جنيّـًا ام عفريتًا ام روحًا ام وسواسًا خنّاسًا، الأمر الذي يكشف جانبًا ميتولوجيًا تجلّى عندنا في اللغة العربية.. ولكن اذا اردنا تناول الموضوع بلغة علمية، فان الشخص الملبوس يتحرّك تحت تأثير رغبات باطنية بسيكولوجية، كان البشرعبر التاريخ يحاولون تجنبها، بايجاد سيناريوهات لمنعها او لتضليلها أو ترميزها، وفق التقاليد العامة ومستوى التطورالاجتماعي والديني.

   الفيلولوجيا والتمزيق
  والسؤال الذي يراود المرء، هل تستطيع الفيلولوجيا العربية  ان تقدم بعض المفاهيم المناسبة للأمر؟ فلنحاول..
  الجذر الثلاثي "مزق" يتضمن معنى خرق وشقّ، ليس للباس فحسب، بل قد يعتمد في العملية الجنسيّة.. لذلك نجد في قاموس المعاني تعبير (مزق عرضه) يعني شتمه واغتابه، وطعن فيه.. فالتعبير هوإشارةعنفية واضحة.. ولا نغفلنَ الكلام القاسي الذي يلجأ اليه الذكور، عند الحديث عن نجاحهم في العملية الجنسية (مزقها تمزيقًا)..
   ولا يغيب عن البال ان الحزن يمزّق القلوب بتعبير مجازي لدى الشعراء، أي أصابه الأسى العميق.. من هنا نفهم أن هؤلاء الذين لجأوا الى التمزيق قد أعلنوا عن حالتهم المأسوية وأحزانهم، وقد يلجأ المنتصر لاعلان تمزيق قوات العدوأو الطغاة للتعبير عن تشتيتهم وتفريقهم في البلاد، وبالمقابل يعلن المرء عن تمزيق المُلْك للإشارة الى إزالة أثرالمملكة العدوّة.. وما تمزيق البنطلون إلّا محاولة لإبداء الاستعداد والتمهيد لإلغائه وإزالة وجوده.. وربّما هوتعبير عن  تمزّق الذات، والاشارة هنا الى النفسية الممزّقة والمحطّمة، أو الحزينة، لانه قد يلجأ المفجوع  بشكل عفوي الى تمزيق ثيابه عند الحزن الشديد والمفاجئ، والى تخريب تسريحة الشعرأو حتى نتفه..
   وفي حالات الوفاة والفاجعة، وتقديم واجب العزاء،  تعبّر النساء  وحتى الرجال أيضًا، عن حالاتهم النفسية البائسة بارتداء اللباس الأسود.. أو تجنّب الألبسة ذات الألوان الفاقعة.. وبالعكس يحتل اللون الأبيض أجساد العرسان في الأعراس والمناسبات السعيدة.. وذلك له شأن آخر في الأبحاث الفيلولوجية..         

   لهجات  الجذر "مزّق" المناسبة
   يبرز قاموس المعاني أوّل مرادف ثلاثي "مزع"، والتعبير الشعبي "مزع حنكه" يعني مزّق حنكه.. كمن يمزّق حنك حيوان مفترس.. وذلك الكلام يناسب الذكور في صراعاتهم  وابراز بطولاتهم.. ويخشى من ان تكون خروق البنطلون دعوة باطنية لتشجيع الذكور أو الآخرين عمومًا لمزع الجسد.. ونزع طبيعته وتغيير طبعه وطباعه.. ونذكر في هذا الصدد التحوّل من الطبيعة العذرية الى الزوجية، سيما وان فض البكارة توحي بتمزيق الغشاء، ومزع البكارة، مع ما يرافقه من نزيف يوحي بنزاع ومعركة.. لا نزال نعتمد  الكلمة (نزع) للاشارة الى اقتلاع الشيء وجذبه من موضعه وازالته (حسب القاموس) بل عمومًا للتخريب وخاصة الألبسة.. والمنزوع، في العامية، هو الذي فسدت أخلاقه.. لعل نزع البنطلون يهدف الى الاعلان عن فساد اخلاق لابسه.. أو الايحاء.. أو تعويض اخلاقي عن رغبات مكبوتة.. علمًا ان "النزال" هو حقّـًا معركة.. والطريف أنه يتألّف من (نز+ زل)، فهو انزال واذلال.. وهذا ما نجده في التاريخ.. فعملية نزع الشيء من الآخرين هوسلبهم.. بل ان النزع الى الشيء هو شوق اليه.. فالبنطلون المنزوع بسبب معركة أي نزاع.. بل هو في نفس الوقت يدل على الشوق.. والحنين للرجوع أو العودة الى (الى الوطن مثلًا).. وكما كل عمليات التخريب التي تنسب الى قوى شريرة فان العربية ترى ان النازع هو الشيطان.. فهل لابس البنطلون الممزّق والمنزوع يعلن عن شيطنته؟ نعم، أليس اللابسُ ملبوسًا؟! هنا تواصل بين هذا الامر وبين الموت، لان بعض النزع وصول الى موتٌ..
  لعلّ في الامر (نزقًا)، فالنزق هولهجة قريبة من مزق، فبعد كل ما سبق ايراده قد وثقته اللغة العربية بامتياز.. والذكاء البشري يعرف كيف يرمّز بظواهر الأمور.. لان النزق خفةٌ وطيش في كل أمرٍ، وعجلة في جهل وحمق، وحدّة طبع وسرعة غضب، وايحاء بالخفة والوثب والتقدّم بالسير   كالأولاد وكالفرس، وكذلك كمن وصلت حالته حتى الفوّهة عندما يمتليء الإناء.. وغالبًا ما يعتمد هذا التعبير للإشارة الى الغضب الشديد..
    وفي ظاهر الامور، إنّ البنطلون الممزّق هو كلّ ما تقدّم من معانٍ في اللغة العربية، بامتياز، رغم أن الاختراع (الاختراق والخرقة) هو اميركي  تاريخيـّـًا واقتصاديـًا واجتماعيـًّا..

  الميثولوجيا وايجابيات الممزّق
  الالتزام بالجذر الثلاثي لكلمة (مزق) كما هو، لا يفيدنا، وهو أمرٌ من غير منهجيّتنا دائمًا.. لذلك نعتمد اللهجة المناسبة (مزك ومسك) وهي (الموسيقى) وهي فنٌّ من الفنون الراقية جدًّا، ولغة عالمية، تقدّرها كل الشعوب عمومًا، وهي ليست غريبة عن اللغة العربية، ربما انها ذات جذور عربية أصيلة، لانّ الجذر الثنائي (مسّ) والمسُّ هو اتصال بالآخرين، وخاصةً بالجنس الآخر، وطالما كان هذا الشأن أمرًا مقدّسًا،وميتولوجيّـًا، وكذلك هو مسّ أرواح الجدود، أو أرواح الموتى، أو المعبودات، أو الجان (جني ملاك أو جن شرير) وليست صدفة أن يكون المس والممسوس مرادفين للبس والملبوس..  والمسك من مسك يمسك، وهو أحد أفعال الاتصال، ولا نغفلنَّ أن الفنون جنون، سيما وان الموسيقى أحد أساليب الاتصال الباطني اسوة بالطرب والأصوات الايقاعية.. وطالما اعتمدت أدوات  الايقاع كالطبل والدفوف في معظم حضارات العالم القديم لغاية الوصول الى حالات الاتصال الميثولوجي..  مع العلم أن كلمة الميثولوجيا تتضمّن معنى المس والمتّ والاتصال كأحد الأسـس الدينية عبر التاريخ..
  من هنا من حقنا أن ننسب الكلمة الى جذورها العربية أو المشرقية عمومًا، انها المزّيكا.. اذن نهنّيء هؤلاءالذين ارتدوا البنطلون الممزّق الذي يسهّل الاتصال بالآخرين، ويسهّل المسّ، كأنّه دعوة للاتصال، لأنّه كالموسيقى، كالفنّ.. بل انه تماسك وركوز، في معانيه الأخرى..
   ماذا في الجذر الثنائي (مزّ+ق)؟  رغم كون علاقته بالطعم "المزّ" بين الحلو والحامض..يعني ان التمزيق هو حالة وسط بين الحالتين.. إلّا أن "المِزّ" هو الفضل أوالفاضل ~في القاموس~ ، ويبدو انه بسبب الجذر (مزّى) الذي يفيد التفضيل والتقريظ.. بل مما يناسب أكثرهو الجذر (ماز) لأنه يفيد التمييز، وحقّـًا ان الممزّق هو مميّز والتمزيق تمييز.. ولكن برأينا لو بقي محدودًا بعدد قليل ولم يتحوّل الى زيٍّ منتشر دارج لدى الجميع مما يفقده تميّزه.. ومن المعروف أن المزّ هوتعبير مائيّ له علاقة بمصّ الماء فالإرتواء.. وارتشاف الشراب (ويعتمد التعبير للكحول عادةً).. والامر المزّ هو أمر صعب، فكم من الصعوبات التي قد تواجه المرء لو حاول الوصول الى ممزًقي وممزّقات الثياب؟؟ حتى هذا الأمر لم تغفله اللغة!!
   إمّا اذا اعتبرنا أن في الأمر "رقيةً شافيةً"، فلأن التعبير العربي (ماز الأذى عن الطريق) يعني أزاله ونحّاه.. فهل ذلك في أذهان مرتدي اللباس الممزّق يا ترى.. كما في الرقعة والترقيع؟؟