قصة البنطلون الممزّق
ما يلفت النظر والانتباه في هذا العصر، انتشارالسراويل الممزقة والخلفية الهابطة، دون أي عامل من عوامل الذوق والفن، خروجًا عن اللياقة والأناقة والاحترام للبصر والنظر لمن عنده نظر.. وخلافًا للمعهود وحتى للراحة في ارتداء الملابس المسهّلة للحركة والليونة.. وصولًا لتشويه الشكل وتقاسيم الجسم اللازمة لابراز الحسن والجمال اللذين اعتاد الناظر على تقويم المشهد الجسدي والتمييز بين التناسق والتضارب.. بين القباحة والملاحة..
فالخلفية البارزة صارت كالخلفية الثقافية ساقطة هابطة تخرّب المؤخّرات واشكالها المفترضة وتكشف اللحوم والشحوم المتدلاة نافرة تحت قمصان منحرفة.. وبطون بارزة فوق أحزمة تتحدى توجيهات زاعمي ازالة الكروش من الواجهات..
ليس ذلك فحسب.. جينزات فقدت ألوانها تمزّقت بعنف الرفض الأبدي الذي يهيج المراهق المرهق لاسقاط كل نسيج في وجهه، حتى اذا ما وجد شيئـًا يسقطه اسقط ذاته بذاته.. والخروق ليست للسترة بل لاسقاط الاتساق.. والدرزات ليست للَدْمِ التفاصيل، بل لفتق العقل والعقد وفك الربط والرباط.. واسدال النطاق.. وافلات الأزرار.. وافتعال التمرّد والتسيّب.. بدون غاية ولا هدف.. كمن يناطح العجول والعجول تأبى النطاح..
ليس التحدي لهؤلاء الذين صنعوا الأزياء.. لأن المصممين هم من ابدعوا هذه البدعات.. هم صنعوا التمزيق والخرق.. هم من قاموا سابقًا بتلطيخ السراويل بدهانات والوان ليست منها.. بدا لابسها ملبوسًا بعمل المصانع والزيوت حيث لا علاقة له بها..
الاسباب غير ملائمة
-----------------
نعم كل ما تقدم ليس من شيم لابسي الملابس الملبوسين.. لان الزيّ الأصلي لم يكن للعامة انه لفئة محدّدة من الناس..
ان هذه الأزياء قام بإفتعالها عمال المصانع الضخمة ذات الأعداد الكبيرة من الأيدي العاملة المسحوقة تحت نير الحاجة للعمل ومواجهة البطالة ومواجهة مجتمع الاستهلاك الذي كان يتطلّب منهم مجاراة انماط عيش الطبقة العليا من المجتمع.. التي تحتقر وسائل الانتاج وتتمركز بأياديها الرساميل الضخمة.. وتتحكّم بمصائر البشر والثقافة والفنون والعلوم والتكنولوجيا والتربية والقضاء والسياسة والاقتصاد والمستقبل واتجاهات التطور..
كل ذلك دفع بالفئات العمالية المسحوقة الى التمرّد على انماط العيش التي تفرض عليها من فوق.. وتكلّفها انفاق المبالغ الطائلة من مداخيلها المحدودة في عملية التجاوب مع متطلبات مجاراة الدعايات والاعلانات والثقافة التضليلية التي تطبخ لدى الأئمّة من عتاة الطبقة الحاكمة.. حتى وصل الأمر بالعمال على رفض أزيائهاوأطقمها وياقاتها ولياقاتها وألوانها وتصاميمها واكتفوا بما ارتدوه من سراويل العمل وقمصان الشغل.. بكلّ ما تحمله من زيوت ودهان وخروق وتمزق وتفتّق..
ليس ذلك فقط، بل أخذ الرفض يتجه ضد فنون الطبقة المتحكمة فراح عمال المؤسسات الصناعية يسقطون أغانيها ويؤلّفون ألحانهم الشعبية المناسبة.. أعتمدوا على آلاتهم الموسيقية المحمولة من غيتار وهرمونيكا واستغنوا عن الآلات الالكترونية الضخمة والفرق الموسيقية المتخصصة ورقص الصالونات.. وتجنّبوا المسارح وأقاموا تجمعاتهم في الحدائق والهايد بارك وأطلقوا العنان لثقافة جديدة حرّة وحطموا الكثير من التقاليد.. وكسّروا الاسطوانات المنتجة في كبرى استديوهات التسجيل.. كما حطّموا كادرات اللوحات الفنية ورسموا على الألواح الخشبية وعلى الجدران والصفائح المعدنية المجعّدة وعلى كلّ ما تطال أيديهم.. وتناولوا المواضيع المحدثة المخالفة للنمطية المنتشرة عبر الزمن..
ولم يكتفوا بذلك، ولان للانسان شعرًا ومشاعر.. فقدنفشوه ورفعوه وأسدلوه وقصّوه دون تنسيق.. أطالوه دون ترتيب.. بل نزعوه وحلقوه من جذوره.. الخ.. متخلّين عن المزينين وصالاتهم الفاخرة الغالية.. وأطلقوا اللحى والشنبات..
ولعل تلك الحركات الشبابية والطلابية، وفي الاساس العمالية.. كانت وراء أطلاق مجموعات الهيبيز والبيتيليز.. ورفعوا شعارات السلام، والحبّ، والغاء التمييز العنصري بين البيض والسود وسائر القوميّات الأخرى من مختلف الشعوب المهاجرة النازحة باتجاه دول المركز.. سيما بعد اكتشافهم المصلحة الطبقية الواحدة التي تجمعهم بمواجهة طبقة مستثمرة واضعة يدها على مقدرا ت البلاد من مختلف الجوانب.. فاستفادوا من ثقافة ابناء الشعوب المهاجرين المقيمين، مزيلين الحواجز المفتعلة التي كانت تقيّد تواصلهم.. وتقسمهم خلف متاريس عنصرية وهمية..
ماذا جرى بعد ذلك؟؟
الٌا ان الاحتكارات التي وجدت نفسها خاسرة من تلك الاجراءات التي اتخذتها الطبقة العاملة الاميريكية وفي سائر الدول الصناعية الكبرى.. والتي كانت عاجزة عن رفع شعارات الاشتراكية بسبب الصراع العالمي بين القطبين .. فلقد لجأت الاحتكارات الى اتهام الحركات الشبابية والطلابية بالشيوعية.. وباليسار الدولي أوّل الأمر.. وبالمقابل لم يجد المتمرّدون إلّا اللجوء الى الاتجاهات السلمية واللاعنفية مثل المهاتما غاندي.. بالاضافة الى رفع صور تشي غيفارا.. حت وصلت الى التوباماروس..
ساهم بهذه الحركات في الماضي الأزمات التي عانت منها الولايات المتحدة من جراء استمرارها بالحرب ضد الفييتنام .. مما عزز النهج الرافض بالانخراط بالاعمال العسكرية.. وسجّل التاريخ هروب اعداد كبيرة من التجنيد العسكري وانضمامهم الى فئات المتمرّدين الرافضين لكل أساليب السلطة وسياستها التوسعية العسكرية ولسياستها الاقتصادية..
الذكاء الرأسمالي
لأن البورجوازية لا ينقصها الذكاء( عفوًا من اعتماد التسمية القديمة البورجوازية) فقد لجأت الى أساليب أكثر تطوّرًا في استعادة ارباحها المهدورة من جراء تحطيم الانماط السابقة.. طالما ان كلّ الحركات الشبابية والطلابية والعمالية غير قادرة على التأثير في بنية النظام الأميركي الأساسية فعمدت الى ايقاعهم في فخاخها..عندما لم تستطع ان تواجهها.. فلجأت الى امتصاص الثقافة الجديدة التي باتت أوسع انتشارًا..
راحت كبرى الاستديوهات تسجّل وتنشر أغاني الشبيبة والطلاب ومؤلّفاتهم الموسيقية كما هي.. بل تشجعها وتدعمها ماليًا وتغري بالشهرة والغنى والشعبية والحشود عبر مدراء ورجال أعمال هامين راحوا يوظفون الأموال الطائلة قي مشاريع استثمارية ناجحة توفّرت لها الأرضية الدعائية الواقعية السهلة..
وراح الرأسماليون الأميركيون وسواهم، يصنعون كل مستلزمات هذه الحركات.. فصارت تصنّع بكثافة الآلات الموسيقية من الغيتار غير الالكتروني والهرمونيكا والطبلات المتنوعة الأنغام والايقاعية المخالفة للموسيقى النمطية والتي تعتمد على الالحان الافريقية تارةً وتارةً على الانغام اللاتينية والمكسيكية..بل لم تترك مجالاً واسعًا لم تسدّه باحتضان تلك الحركات الشبابية .. بل وجدت القدرة على الاستفادة المادية من تشجيعها..
ولم تتوقف عن توظيف أزيائهم في خدمة احتكاراتها.. فراحت مصانعها تنشر الجينزات الملطخة بألوان مختلف انواع الدهانات وزيوت المصانع التي كان العمال في الاساس يشكون منها..
هذه كانت الاجراءات الاولية.. قبل اللجوء الى تمزيق البنطلونات وعرضها في اسواق الاستهلاك العامّة.. بل ابتدعت هي الكتابة على القمصان واطلاق الشعارات أحيانًا السلمية والثقافة الهندية وغيرها مما لا تستثير أي شغب أو فوضى أو ثورة ضد النظام.. فهي لا تتعدّى الرفض السلبي..
بل وجدت تلك الطبقة الذكية الأرض الخصبة لغزو سلعها الاستهلاكية في اسواق العالم النامي والرأسمالي.. مستفيدة آن ذاك من حالات التململ في أوساط العامة بسبب هزائمها في الفييتنام والنقمة العالمية على استمرار سياستها العسكرية في العالم.. فاستنجدت بالفلسفات الوجودية واللاأدرية والعبثية والفوضوية والحركات الانقسامية في الفكر الفلسفي الماركسي اللينيني الذي كان بدوره يعاني من ازمته الايديولوجية. . بالاضافة الى تشجيع الفئوية مقابل الطبقية، وتشجيع الطلاب مقابل العمال، تشجيع النساء مقابل الذكور، تشجيع الحرية الفردية مقابل الحرية الاجتماعية.. كل ذلك لمسناه ولمسه جيلنا لمس اليد في حينه وخاصة في وطننا العربي الذي كان يعاني ما يعانيه في الصراع العربي الصهيوني، ونتائج الهزائم والنكسات المتتالية..
النتيجة
------
ان هذا التقليد الذي يسود مجتمعنا لا اساس واقعيـّـًا له فهو له ظروفه الخارجية التي عرضناها.. ولا تخدم الجانب الجمالي البشري ويخالف ابسط قواعد التقسيم الجسدي للانثى أو الذكر.. والحديث ليس له علاقة لا بالتحرر ولا بالانفتاح ولا بالدين ولا برفض الدين أو التمرد عليه.. فالقضية ذوقية وبصرية.. فالجينز وسائر السراويل التقليدية أكثر جمالية للمرأة.. وأكثر راحة للرجل وخاصة العامل الذي بات يتفركش بسرواله كلما هم بشدّ برغي أوحمل خشبة.. أو فرشاة.. فلنتعظ!!!
قصة البنطلون الممزّق بعد ١١أيلول
*********************************
.. طبعًا هناك قاسم مشتركٌ بين حالة الجينز قبل ١١أيلول وبعده.. حيث كانت المحطة الضاجّة التي أصمّت العالم والتي عبّرت عن واقع جديد يعيشه العالم وعن إنقلاب في ميزان القوى العالمي لصالح الإستثمارات الأميركية العاملة في الخارج.. طالما كانت تسعى للسيطرة على الداخل الأميركي وتوظيفه في خدمة مصالحها.. وصار من الواضح دخول البشرية في مرحلة جديدة من تاريخها.. وبقيت آفاق التطوّر المنتظرة مجهولة المصير..
القاسم المشترك هو تشويه هذا الزيّ التقليدي في التراث النمطي.. ولكن كان، قبل، يعبر عن نقمة شعبية واسعة ضد المجتمع الإستهلاكي الذي يخنق العاملين والعاملات كما سبق وقلنا.. ولم يتعدّ في أغلب الأحيان التلطيخ المتعمّد بالدهان.. فيما لم يجرِ تحويله الى جينز ممزّق الاّ في العقد الأخير.. ولاقى ترحيبًا عالميّـًا من قبل أوساط واسعة من مختلف الأوساط والفئات وفي مختلف أقطار الأرض.. وليس من قبل فئة الشبيبة فحسب.. وليس من قبل العمّال فقط.. بل من قبل علية القوم وسائر الأعراق والقوميّات والأديان.. وليس صدفة أن جاء الأمر مواكبًا للتطوّرات الأمنية العالمية والتحولات السياسية..
نذكر ذلك دون غضّ النظر عن الترويج الأعلامي للشركات الإحتكارية ومصممي الأزياء.. مع الجزم بأن هذا الزيّ المنزلق عن المؤخرّات النسائية والرجالية لا يمكن أن يوجد أكثر منه تشويهًا للذوق البشري وللجسم الانساني وخاصةً الانثوي.. مما يفسّر أن القضية ليست لها علاقة مباشرة بالإغراء الجنسي بل لأغراض أخرى.. أبرزها:
شعور عام وإحساس باطني بسقوط عصرٍ والدخول في عصرٍ جديدٍ من الأنماط والعلاقات الإقتصادية التي تسعى الى قيادته تلك الاستثمارات الخارجية وبالتالي تعمل على تمزيق الرمز النمطي العريق المتمثّل بالجينز الأزرق..
شعور عام بأن الحفاظ على الأنماط القديمة لم يعد يجدِ نفعًا الأمر، الذي يلقى دفعًا ودعمًا من قبل الشركات المتعدّدة الجنسيّات التي تسعى للتحكّم بالداخل الأميركي الذي كان منذ أقل من عقدين هو الأقوى في إملاء سياسته على ميزان القوى العالمي..
هذا ما نلاحظه في الفرق بين جورج بوش الأب وبوش الأبن..
قال الأب منذ عشرين سنة وفي وسط اتحاد الدول الصناعية الأسيوية السبع الناهضة وعلنًا: إن عدوّنا الرئيسيّ في العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي هو اليابان..!!
وفيما كان الصراع بين أميركان الداخل والخارج محتدمًا.. جاء التطور التكنولوجي والتحوّلات في سقوط المنظومة الاشتراكية.. ليصبّ في مصلحة الاسراع في حسم الموقف وتوحيد الجهود ضد السياسة الأميركية القديمة.. التي تجمّعت ضدّها الأحقاد المتراكمة منذ عقود طويلة.. الى درجة أن بوش الأبن لم يفز إلاّ بشروط هذه الشركات التي عدّلت من التوازن في الأصوات الانتخابية.. وضعته على خلاف مع ما كان يريده بوش الأب.. وجرت كل تلك الحروب من جراء الانفجارات التي تردّد صداها في تفجير البرجين في ١١أيلول وفي مختلف أنحاء العالم..!!
---------------------
فإذا كان البنطلون الممزّق في الماضي تعبيرًا عن تمرّد ضد الاحتكارات والاستهلاك .. فإنّه اليوم تعبير عن التعجيل في اسقاط النظام القديم ولكن لمصلحة قوى أكثر إجرامًا وشراسة لقيادة العالم الذي يزداد تحوّله الى قرية صغيرة في قبضة التكنولوجية الرقمية الموضوعة في جيب بنطلون جينز ممزّق..
فما هي المصلحة المحلية في ذلك يا ترى؟