من الجينز الممزّق الى اللباس "المرقّع"
عندما نشرنا البحث حول الجينز الممزّق وتضمّن الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العالمية، انهيناه بالفقرة التالية:
"إذا كان البنطلون الممزّق في الماضي تعبيرًا عن تمرّد ضد الاحتكارات والاستهلاك .. فإنّه اليوم تعبير عن التعجيل في اسقاط النظام القديم ولكن لمصلحة قوى أكثر إجرامًا وشراسة لقيادة العالم الذي يزداد تحوّله الى قرية صغيرة في قبضة التكنولوجية الرقمية الموضوعة في جيب بنطلون جينز ممزّق..
فما هي المصلحة المحلية في ذلك يا ترى؟"
**********************************
واليوم اذ نتعقّب اللباس المرقّع فلأنّ الأمر يتعدّى المشهد السطحي للثياب، وسائر انواع الفاشن.. لما تحمله من أبعاد ميتولوجية مفاجئة لمن لا يدرك ثقافة الشعوب والقدرات الفيلولوجية للغة العربية واللغات الاخرى..
بدايةً، لا بدّ من الاشارة الى بعض التصرّفات والممارسات الشعبية المنظورة، التي قد تثير الدهشة والغرابة، وكلا الأمرين مطلوبان، لانه ان لم تحصل المفاجئة، فان النتائج لن تتحقّق.. وذلك شأنٌ نفسي إيحائي، له تفسيره العلمي.. وذلك ليس له أي علاقة مباشرة بالجينز الممزّق الذي سبق لنا كشف أسبابه، وحيثياته التاريخية.. واذا حصل، فلأنه تقارب مفتعل لا يمت بصلة الى الواقع الموضوعي الذي نبحث به، كما يمرّ معنا..
في التاريخ:
قضية الرقعة، هي قضية قديمة جدًا، اعتمدها الناس لأسباب اقتصادية، ناتجة غالبًا عن الفقر والعوز أساسًا، وعدم القدرة على استبدال الألبسة بأخرى بديلة سويّةٍ، فتقوم ست البيت حسب مهارتها، بترقيع الممزّق من السراويل أو القمصان أوالكلسات أي الجرابات.. حيث تكون احتفظت بعدّة الخياطة، المناسبة، امّا قطع الملابس الغالية فقد كانت تعالج في ممحلّات متخصصة بالرتي، والترقيع الفنّي، لا يقوم بها سوى أصحاب المهارة، ممن اشتهروا في أوساط العاّمة، بحيث لا ترى الرقعة، أو يرى التمزيق، إلّا بعد التحديق والاقتراب الشديد من الأثواب المرقّعة،
وكانت الغاية من العملية توفير انفاق المال لشراء البدائل، أو للإحتفاظ بقطعة مميّزة، غالية الثمن، أو موروثة، رغب صاحبها عدم اتلافها..
حاليّـًا، قد يلجأ أحدهم الى ترقيع الجينز الممزّق، لزيادة مفاعيل التمرّد النفسي، ضد الاحتكارات، أو لأسباب سبق لنا شرحها في الدراسة السابقة، أو حتّى لإخفاء تفاقم التمزيق في أمكنة حساسة، أو لزيادة لفت الأنظار..
مشاهدات
ولكن، كلّ ذلك، يخرج عن الموضوع الأساس، الذي نلاحظه في بعض الظواهر الملفتة للنظر، أصرار أحد الميسورين لاظهار جرابيه (كلساته) الممزّق حيث تبدو منه اصبعه الكبرى، أمام الأعين، أو أظهار بعض الرقع على لباسه الخارجي دون خجل.. والسير بحذاء متلف، أو دونه، الى أحد الأديرة، لإيفاء بنذر لقديس أو قديسة..
وأبرز ما نراه أو نعرفه ونسمعه، هو النذر الذي قد يلجأ اليه بعض الأهلين ممن رغبوا بمولود ذكر.. أو للحصول على أي مولود، بسبب المرض أو العقم.. فينذرون إلباس المولود المنتظر أردية مرقعة.. وذات ألوان مختلفة فاقعة مخالفة غير منسجمة بتاتًا بحيث تبدو جليّة لافتة للأنظار..
إمّا لماذا لفت النظر؟ ذلك لأنه من المطلوب، ردّ الأعين الحاسدة، عن المولود، أو عن ثراء، أو عن صحة.. الخ.. فالأعين الحاسدة تتلهّى بغرابة المشهد، عوض التحديق بمؤشّرات الغنى.. فهذا هو الجانب الايحائي والنفسي من الموضوع، أكثر من كونه دينيـّـًا.. ونهمل الخوض بالتوسّع في هذا الجانب..
الكلمة للقاموس العربي
إذًا كيف تجلّت هذه المواقف في فيلولوجية لغتنا العربية؟
فلنتناول كلمة (الرقعة) لإدراك ماذا تستطيع العربية أن تكشفه..
فالرقعة: من الجذر "رقع" - كما يعلم الجميع- الذي يفيد اصلاح الثوب بإضافة خرقة.. ورقع البناء دعمه، رقع حاله أصلحه، رقعه بسهم أصابه، رقعه بكلامه رماه بلسانه، رقع الشيخ اعتمد على راحتيه للقيام، رقع في سيره أسرع، رقع فلانًا ضربه..
رَقَّعَ دُنْياهُ بِآخِرَتِهِ : أَصْلَحَ
رَقَّعَهُ البناءَ ونحوه : دَعَمَه.. والارقع أحمق
وأيضًاالأرْقَعُ : السماءُ الدنيا ؛ لأَنَّها مُرقَّعَةٌ بالكواكب والنجوم..
الرقعاء هي الحمقاء، والدقيقة الساقين.. الخ.
كما نلاحظ. ان عملية الترقيع هي عملية اصلاحية لا تشمل البنطلون واللباس فحسب، بل اصلاح الشأن والحال والبناء، بالاضافة الى أرفع الشؤون المعروفة وصولًا الى السماء المرقعة (المرصّعة) بالنجوم، وعلى النقيض، نجد ان الجذر متواصل مع الحماقة..
كل ذلك يعني ان الرقعة هي عملية اصلاح، وترميم، وقد يكون دينيًا، وعملية التواصل مع العالي الراقي السامي السماء، وما الحديث عن الترقيع بالنجوم الّا سيناريو ومحاولة لفهم العلاقة بين الرقعة والعلو.. الامر الذي ستفسّره الفيلولوجيا..
والموقف واضح من هؤلاء الذين يسعون للتظاهر بالترقيع فرأى الناظرون ان الرقعة هي حماقة.. وهذا موقف مشروع..
التحليل الفيلولوجي
الجذر الثلاثي (رقع) يتواصل مع رقا رقوًا، بتحويل حرف العين الى حرف العلة الالف الطويلة، فنحصل على: ارتفع وسما يسمو، مما يبرّر الحديث عن السماء المرقعة بالنجوم.. وبالتالي فإنّ هؤلاء الذين يرقّعون يسعون الى الرقي والارتفاع دون أن يدروا بتلك العملية اللهجية.. وبالتالي فان الناطق العربي وجد في الأمر تلك الحالة الراقية.. بالإضافة الى الترفع عن بعض الأوضاع الروحية أو المادية.. مثال ترقيع الملابس للترفّع عن الأناقة والغنى والمظاهر، والألتزام بالكفاية على حساب المناظر الخارجية الخداعة..
والجذر إيّاه يتواصل مع (رقى) يرقي، أي قرأ على فلان تلاوةً، من أجل شفائه من مرض أو حالة، ونحن نعرف ان العملية تشمل الوقوف في وجه عيون الحسد.. إذًا، الغاية من نذر الترقيع هي الرقية الشافية.. يسعى اليها الناس المصابون للتخلّص من مصاب.. ولقد حفظ الناطق العربي المضمون باللهجة المتواصلة مع "رقى".. والرقية هي العوذة التي يرقي بها المريض.. ونذكر هنا المعوذات الدينية.. والاستعاذة بالله.. من هذا الجذر اشتقّ فعل ترقى يترقى ورقاه الى مرتبة أعلى.. وذلك بعد تملّق الرئيس إذا رقّاه.. (استنادًاالى القاموس)
من هنا ننتقل الى الجذر الثلاثي (رقي) الذي لا يختلف كثيرًا عن سابقه.. ومن لا يرقى اليه شكٌّ هو الموثوق، والرقي الاجتماعي هو تقدّم وحضارة.. ونلاحظ التناقض بين الحماقة والرقي في الجذر الواحد..
بعد هذا العرض، لا يعود ينفع التعريض برقاع الملابس.. لعلّه كان راقيًا دون ان ندري..
وظاهريًا، فإن هؤلاء الذين ارتدوا الممزّق والمرقّع، هم من عليّة القوم، سيما وإنّ تلك الأزياء غالية الثمن رغم بساطتها وتمزّقها..
ولكن، في الاساس، الذين اكتسوا بالي الملابس، كانوا الفقراء المعوذين..المشردين والمشردات.. الذين لجأوا الى المهن المحتقرة لتأمين لقمة العيش.. ربما مهنة الرقص.. فماذا حفظت اللهجات العربية؟
إحدى اللهجات الثلاثية المتواصلة هي (من رقع الى رقص)، والرقص معروف كاهتزاز الجسم على ايقاع الموسيقى والغناء.. ولدى الناس موقفان منه، الاعجاب بالراقص، أو الاستهانة بمهنة الراقص أو الراقصة.. ربما اعتبروا الرقص حماقة.. والرقعاء حمقاء..
ونستنتج، أن الرقص في أحد معالمه قد اعتمد على هؤلاء المعوذين المرتدين والمرتديات المرقعات من الأثمال، قبل تكريم أعمالهم بتقديم المناسب من الألبسة، حسب مهارتهم بالأداء الفنّي والغناء.. فما علاقته بموضوعنا؟
الجواب، ذلك لان بعض أنواع الرقص، في مرحلة من المراحل، كان يعتمد عليها في عمليات الاستشفاء، الروحي أو الجسدي.. فهي رقية شافية.. اسوة بالرقعة الشافية!!. ومن المعروف، أنه طالما كان الرقص يمارس لدى الشعوب البدائية، في افريقيا واستراليا وهنود أمريكا، وفي جنوبها، وكذلك تمارس ضمن الطقوس الدينية، في المعابد والهياكل، كأحد الممارسات الميتولوجية المطلوبة في الأديان السابقة العريقة في التاريخ.. مما يزيدنا التأكيد على ترابط الرقعة بالتلبيات (الطلبيات) الدينية والرقي الشافية.. واذا وجدت بعض الرقصات التقليدية مثل الزار (مصر) قد تأخذ طابعًا دينيًا.. لا يقل الاعتقاد بها وبتأثيرها عن الرقية الشافية..
وفي معرض الحديث عن أحد معاني (رقع) المقصود به (ضرب)، لا نزال نتلفظ بالتعبير المشهور (ضربة عين) كأن الرقعة ترد ضرب العيون الحاسدة.. وهذا صحيح من الناحية البسيكولوجية لمن نذر الرقعة (الرقية)..
ويشترك الجذر (رقأ) بالهمز المتطرّف، بعملية الاصلاح ايضًا، ويتميّز بكونه يوقف الدمع أو الدم.. أو لسكن أو تجفيفه بعد سريانه، من هنا لعلّ بعض الرقع كانت تهدف الى تحقيق هذه الغاية.. لا، بل حقيقة أن الرقع في الاصل توضع على الجروح أو أمكنة سيل الدم.. فهي اصل المحارم الصحية، في مواجهة النزف..
أما اذا قلبنا القاف كافًا، فنحصل على (ركع)، فهل هناك شكّ بان الركوع هوأحد اركان الصلاة، وكلاهما يحملان معنى الرضوخ للإلٓه المعبود..
الجذر الثنائي
الجذر الثنائي من "رقع" يجوز أن يكون (رقّ)..
الرَّقُّ : جلد رقيق يُكتَب فيه
الرَّقُّ : الصحيفة البيضاءُ
الرَّقُّ : الماءُ الرقيق، أي القليلُ الخفيفُ في البحرِ أو في الوادي..
وطالما كان الرقّ، أحد أدوات الكتابة للرقيات، التي ترمى في مياه البحر أو النهر أو الوادي.. ومن لا يصدّق فليسأل المشايخ الذي يكتبون لمن ساءت أحوالهم.. وطبعًا صاروا يكتبون على الأوراق عوضًا عن الرق وهما كلمتان متجانستان باللهج.. والرقّة فيها لطافة وفيها الحنان.. وهنا نجد الاستعطاف المطلوب من المعبود.. لان الحرّ اذا رقّ أصبح عبدًا رقًّا من رقيق.. وهنا نلاحظ كلمة العبد والعبادة للمعبود.. ومضمونها الخضوع والعبوديّة.. ونعتبر ان هذا الخضوع هوعملية تواضع واتضاع من التكبّر والتباهي، هذا الامر الذي يجعل الانسان يرقى ويرتفع ويترفع عن الصغائر الدنيوية.. ذاك هو ما نجده في عملية الرقعة..
من هنا نفهم معنى الرقة وسكن الغضب.. والرواق حيث تصفو النفس كما تصفو الماء، خاصةً اذا راقت نفسه، أو راقت لنفسه الأمور أو الأحوال وأعجبته..
ويأتي الجذر بمعنى راق الماء انصبّ.. والسراب ترقرق ولمع.. وطالما اعتمد الماء في الرقية، وطالما شوهد السراب كالماء الرقيق على صفحة الأرض..
فهل ورثنا، اللغة كما نرث الجينات؟ أم اننا مضامين اللغة في جيناتنا؟
وفي الجذر الثنائي، نجد لهجة (ركّ) الذي يرادف كثيرًا الجذر "رقّ".. بالضعف والرقة، وكذلك يتضمن معاني الاصلاح، بل المعالجة، لان " أرك الجرح" يعني صلح وسكن ألمه، وشفي..
النتيجة
ان الجذر العربي "رقع" قد حمل معظم الحدث التاريخي والأركيولوجي والميتولوجي كأفضل ما يمكن أن نكتشفه، من حجارة وفخارات ومنحوتات وأوراق ورقائق، ومسطورات وأساطير ومروّيات..
وان الرقعة حقّّـًا اعتمدت كرقية شافية، ولا تزال تعتمد لدى الكثيرين من الناس محليّـًا واقليميّـًا، بل قد تكون عادات أو ممارسات عالمية.. غايتها تحقيق اصلاح حالة أو علاج مرض، أو ردّ حسد، واصابة ضربة عين حاسدة، أو تحقيق مطلب عائلي، أو التخلّص من سوء وظلم وتعاسة..الخ.
اثبتنا قدرة اللغة العربية على معالجة المعاني بجذورها الكاملة، أو بجذريها الاثنين.. وأحيانًا، حتى الجذر الآحادي.. الذي يستحق درسًا موسّعًا وخاصّـًا..
أما بالنسبة للعلاقة بالبنطلون الممزّق، لم يظهر ان للرقعة أي علاقة حقيقة به.. فهي علاقة عرضية واهية وسطحية، لا تمتّ الى اسبابه الاجتماعية والاقتصادية والاستهلاكية بصلة وثيقة..
إذًا للرقعة والرقية علاقة فيلولوجية بامتياز، باللهجات والممارسة..