النور
١
هناك، كان النور يغفو في كوخ صغير؛ كان يتمتّع بالراحة المديدة، كل شيءٍ مغلق، يحجب عنه العالم، كلّ العالم الخارجي، كان يحلم، يحلّق في فضاءٍ فسيحٍ عميقٍ عميمٍ، كان يحلم بطيورٍ مجنّحة في زرقة سماء، تحت بياض غيومٍ، تسبح على ريش ريحٍ رطبٍ.. هاهو من روؤس أمواج الى قمم جبال، يندّي الزهورَ وأفناناً غضّـةً، وبراعمَ وأوراقًا..
كان النور يحلم.. والأحلام جميلة، ترفرف.. تعلو الحجر والبشر والحيوان والغاب.. يحلم بنسيم.. يقفز من عطر زهرة فواحٍ الى أنف صبية.. النور يرغب، النور يحبّ، النور يشمّ..
٢
عندما تفتّحت أكمام زهرةٍ عن وريقاتٍ حمراءَ قانيةٍ..
عندها هبّ بعض النسيم يحملُ عطرَها، ويحرّك بعض منافذ الكوخ، وما أن قدر النور أن يتثاءب، راح يطلّ برأسه عبر شقوق وثغور على الحقول والبساتين.. منتشرًا بسرعةٍ هائلةٍ.. يلوّن كلّ شيءٍ بألوانٍ بديعةٍ ملائمةٍ.. لوّن رقيق أوراق الشجر بالأخضر.. لوّن الغصونَ.. لوّن الجذوع.. لوّن التربةَ.. وحلٌق يلوّن السماءَ بالأزرق.. فنانٌ أفلت من عقاله يختار لعناصر العالم ما تستحق من مشاهد وتعابير..
٣
...فيما كان أخونا النور.. يشتم العطور.. والريحان.. والعبق.. كانت فرشاته تتراقص مع حفيفٍ مع خريرٍ مع زقزقةٍ مع رفرفةٍ مع تنهيدةٍ .. مزج لتلك الزهرة خيارًا جاذبًا.. بعض الأحمر.. بعض الأخضر.. مع بعض الطل.. وندّى خدودَ شذاها بالليلكي الليليّ المتلأليء حالمـًا كما النجوم الغافلة.. في ليل الأحلام..
..وهكذا همّ ينشرُ الفجرَ.. فجر الأنوار.. تسلّل عبر زجاج تلك النافذة، عبر ستائر مخرّمة.. وحطّ على خدين..
..الخداّن والوجنتان.. كلاهما مباركان.. بالأبيض بالقرمزيّ.. واستغرق زمنًا يخطّ ويضيف ويصبغ تلك الشفتين .. والنور يكحّل كما ينير!.. فتسلّق الى الجفنين يكحّلهما بسوادٍ حالكٍ.. وذاك الشعرُ.. فيه من النور ما يكفي.. بل فيه من النسيم ما يرفّ ويفرح..
٤
شهّر النور بها.. فتية.. صبية.. هنية.. أيقظها حلم الصباح.. وانتصبت تتحقّق من ذاتها.. وذواتنا في المرايا.. ومرآتها الى جانب نافذة.. وحطّ طائر النور على ثوب النوم.. انه ملاصق.. تقاسيم.. تضاريس.. صناعة الأنوثة إيّاها..
النور متسلّل.. عبر الثنايا.. من خروم الأبر.. خارقٌ للنسيج.. حتّى كاد يظهر.. جسد غضّ يطلّ من الشفافية .. من الحياكة..
أدركنا.. النور يتنشّق.. والجيد معّطر ناعمّ.. والجيد حريريّ.. والفتيات اناث مراهقات.. والمراهقات جاذباتٌ نورَ الذكورةِ.. والنور كما يبدو ذكر ذكر.. وهنّ يحببنه، يرغبنه، يردْنه!
٥
توقّف النور مفكّرًا.. والنور فكرٌ.. ما الحدقتان؟! ما البؤبؤان؟! أدقّ شعاعاته حثّ ليصلَ الى انسان العين.. هذان البؤبؤان حادّا السواد.. حالكان.. خارقان.. خرقا النور مشعّيَن من الجفنين.. انطلقا يلاقيانه.. يصدمان الضوء المتحرّك إليهما.. سحراه سحراه، يعكسانه.. يلتمعان تحت ألقِ الصباح المتلأليء عند النافذة..
همست الصبية، صفّرت لطائر غرّيد يظفر بحرف جانبها..
غنّت.. تراقص النور.. والغناء ليس صوتًا، الغناء شعور قلب.. تمايل لغناءالروح.. غنّت واللحن فيروزيّ.. والكلام ذهبيّ..
الغناء غنى.. غناها اثنان.. سحرها سحران، ظهرا عند السحر.. السحَر والسحْر متلازمان..
٦
فكّر النور.. والنور فكرٌ.. كيف؟ لماذا؟ واللون اللائق لصبية فتية.. يضفيه.. ومخدعها؟ غرفتها، جدرانها، ستائرها، لوحاتها، غضّ النور النظر.. والستر حقّ.. أفرغ بعض اللحظات بعيدًا عن قوامها.. ها هو الأصفر يحيط بالمكان.. والأصفر حبّ وغيرةٌ.. نورانيّ.. والمسدلُ مزهرٌ مورقٌ..
للستائر صفاتٌ وأنواعٌ.. منه مأسور مع صبية فاتنة في مربّعٍ منفردًا مسرورًا ماسًّا وممسوسًا.. منه ما يمتنع عن النور يعصي الاختراق ويستعصي.. يحول بين هنا وهناك.. والناس أذكياء يعرفون ما يريدون.. يحجزون ويخرجون.. يستغلّون متى شاؤا، يتجاهلون متى شاؤا..
٧
طرق سمع النور حفيفٌ.. حفيف ثوب رقيق، والسمع نور.. والألوان شعاعات زهرية شفّافٌ.. ما كان منه إلّا أن يرى.. نظر فشاهد ودهش.. الآن وكلّما إزداد انعكاسًا تكشف المزيد.. جمال وحسن وتناسق.. خالقٌ مبدعٌ حقّـًا..
أحبّ.. وهو يحبّ! لو تسدل الستائر.. لكي يتفّرد معها بقليل من نورٍ..
هكذا.. النور يتكثّف حسنًا وجمالًا .. عاف ما دونه..
أدرك النور.. فكانت العيون.. لانّ:
النور يحبكن..
النور يحبكم..
النور يحبّنا..
النور يهدي..
( ســـعد ديب )