الخميس، 8 مارس 2018

المرأة والتغيير والأيديولوجيا

المرأة والتغيير والأيديولوجيا

لعلّ قلة من الناس وخاصّة الذكور منهم، يؤمنون أن العالم يسير في هذا العصر باتجاه مخالف كليّـًا لما سبق حلوله في الماضي السحيق، عندما سيطرت الأيديولوجيا الذكورية على المفاهيم البشريّة... وتحوّلت الأنثى من موقعها المقدّس الذي كانت تحتلّه الى مكانتها الأخرى الملحقة بالرجل، خلافًا للواقع الطبيعي الذي يجب أن تكونه، ذلك لأنها البطن الحاضن للبقاء واستمرارية الجنس البشري، كقانون طبيعيّ لا يمكن اسقاطه في خدمة الفردية أو الآحادية الذكورية مطلقًا... فالذكور كلّهم من بطون الأمهات شاؤوا أم أبَوا... والبشرية بكاملها من نسل الجنسَين معًا.
  ما الغاية من هذا الكلام؟
  الغاية، هو أنّ هذا التحوّل الذي فرضه التطوّر التاريخيّ البشريّ، لأسباب اجتماعية واقتصادية، هل يمكن له أن يخدم مستقبل البشرية في هذا العالم المتطوّر الراهن؟...

  ذلك، لأنني أرى أن التحوّلات التاريخية الاجتماعية عبر الزمن، والتي كانت في الماضي ضرورة فرضها تطوّر نمط الانتاج المشاعيّ، وما رافقه من اكتشافات في الزراعة والرعي والصيد، أدّى كل ذلك الى سيطرة الذكورية على الاسرة والمجتمع، والحدّ من الحرية الانثوية لتحقيق هدف تملّك الأبناء والأخلاف، وتوظيفهم في العملية الانتاجية، والدفاع عن النفس في مواجهة عوامل الصراعات العشائرية بالاضافة لعوامل الطبيعة التي تتطلّب، الجهود والقوى اللازمة... على كل حال لسنا بصدد البحث الانثروبولوجي الكامل عن الاسباب التي أدت الى فرض الذكر سلطته على المجتمع...

  ولكن نستطيع الجزم، انّ كل سلطة بحاجة الى سلاح فكريّ أي "أيديولوجيا" يفرض من خلالها توجيه المجتمع، ويحدد العدو والصديق... وبالتالي يقمع الآخرين، وفق محاكمات وافتاءات تنطلق من واقع المصلحة الاجتماعية، وتطوّر المجتمع، والانتاج، وبالتالي انماط الإنتاج الاقتصادي.
  
  وهذه الأيديولوجيا، وكل أيديولوجيا، ليست سوى سلاح ضد الآخرين، وهؤلاء الآخرون ليسوا سوى السابقين، أو السلطة السابقة، أو أصحاب الأيديولوجية السابقة التي رافقت الواقع الاجتماعي السالف... من هنا وضع الرجل كل السلطات بين يديه، وتملّك كل ما توّفر له، من الأرض والماء والماشية والزراعة وخاصّة المواليد، وسائر الأنسال، بالإضافة الى المرأة حاضنة النسل والخلف... لأنّه غير ذلك سيؤدّي به الى خسارة أهمّ وسيلة انتاجية ألا وهي اليد العاملة البشرية... 

  من هنا، وجد الذكر نفسه مضطرًّا لحجز المرأة حاضنة المواليد، وحجز الأرض حاضنة الزراعة والمرعى... ووضع القيود على حريتها حرصًا على تحديد ملكية النسل... وبدّل الديانات أو العبادات التي قامت في المراحل السابقة، على أساس وحدة الجنسين الأنثى والذكر... الأمر الذي خدم طويلاً، وسائل العيش واستمرار المجتمع قبل أن يقع في أزمته العامّة، مما دفع الانسان باتجاه تعديل وتغيير المفاهيم والفلسفات والأيديولوجيا، بما يناسب التطورات الحاصلة؛ وباعتقاد الأقدمين انهم حمَوا المجتمع البشري من شرور كثيرةٍ، وخاصة التناقض بين التطوّرات والوقائع الموضوعية، وذلك ليس بعيدًا عن القوانين العامة للتاريخ المادي...
  
  وأضفى "الذكر" على فلسفات المجتمع، أيديولوجيته التي تصب باتجاه الالوهية المطلقة... فعوضًا عن الإلٓهة الأنثى ، صار المعبود ذكرًا بامتياز؛ دون أي مبرّر واقعي سوى حركة قوانين التاريخ الموضوعية التي لا تنتظر من أحدٍ فردٍ أن يوجهها...

  واذا كان هذا التوجّه قد خدم (أو لم يخدم)، مسيرة أنماط الانتاج القديمة إلّا انّه كان يصطدم بواقع التطور الذي لا يتوقف... فالحركة الفكرية تتبدّل مع تبدّل حركة المجتمع المتنقّل من المشاعية البدائية الى الاقطاعية فالرأسمالية... ثم الامبريالية كما يرغب أن يسميها البعض...

  واذا كانت هذه الايديولوجيا التي رافقت العملية التطوّرية قد تسببت بأضرار فادحة كانت محمولة أو محتملة، إلّا أنّها مع الزمن، صارت تسبب الأضرار الكارثية، على البشر والحجر... من الحروب على أنواعها حتى الحروب النووية والابادات الجماعية والتصفيات العرقية، وسقوط الملايين من البشر وخاصة الرجال، بالاضافة الى الأناث والاطفال والمواليد، عدا الأضرار البيئية والأوبئة والأمراض الوبائية، كلّ ذلك يؤشّر الى أزمة الآيديولوجيا التي رافقت السيطرة الاجتماعية للذكور لحقبات طويلة من الدهور، وهذه الأزمة باتت تتسبّب بأذى وجودي للمجتمع، فهي لم تعد تحمي الذكور ولا الأناث ولا النسل المستقبلي، ولم تعد هذه الأيديولوجيا وسائر الفلسفات التي قامت على أكتافها هي الضمانة الكافية لاستمرار المجتمع بصيغته المعروفة، ولم يعد المعبود موثوقًا وقادرًا على الايحاء بالخير العميم والسلام والأمن للجميع ولا بتأمين الحياة الجماعية للبشر ولا لحسن مستقبلهم الانساني...

  لذلك، عندما تصل أزمة الأيديولوجيا الى هذا المستوى من التأزّم... يصير الحاكم ، صاحب السيطرة غير قادر على الاستمرار بسيطرته، ولا المحكوم قادرًا على الاستمرار بتحمّل سيطرته، مهما حاول تغليفها بعوامل الترغيب والترهيب، او عوامل التقديس والتأليه والتابو، الأمر الذي صار يتناقض مع الوقائع اليومية الموضوعية للمجتمع...  

  وأبرز عناصر أزمة الأيديولوجيا اليوم هي الأيديولوجيا الذكورية... التي من الواضح أن الذكور يقعون ضحيتها بالملايين، بل لم تعد تستطيع أن تحفظ الذكورية للذكور، وأكبر مثال الأزمات الصحية والنفسية بالاضافة الى الأمراض الجنسية والقصور الجنسي وحتى المثلية الجنسية والعجز في الاصطفاء الطبيعي للجنس البشري... وليس ذلك فحسب، بل أن الملايين من الضحايا الأنثوية والولادات والتدمير التي باتت تتحقق تحت سيطرة الفكر الأيديولوجي الذكوري المتخلّف... دون ان ننسى العنف والبؤس والجرائم الممارسة خلافًا حتى للأيديولوجيا الذكورية الأصلية... ولا ننسيَنَّ التشوّهات الخلقية والعنف الأسري والتشريد العائلي وتزايد أعداد الأيتام، وتفاقم نتائج الحروب الذكورية الدامية التي أدّت وتؤدّي الى ازمات عالمية من جرّاء ارتفاع أرقام المهجرين قسرًا والمهاجرين رغمًا، والنازحين عن بلادهم وأرضهم هربًا... كل تلك المآسي تفتح باب الولوج الى عالم جديد يختلف كلّيًا عن العالم الكارثي الذي تعيشه البشرية حاليّـًا على مختلف المستويات الانسانية في كوكب الأرض التعيسة...!

  وعندما تستعرض الأزمات التي واكبت ظهور الأيديولوجيا الذكوريّة، أي السلاح الفكري المدمّر؛ نجد إنفسنا حتمًا أمام واقع تغيير حتميّ لا يمكن تجاهله، وإلّا ستقع الكارثة على رأس مدبّريها لا محالة... مما يؤسّس ويمهّد السبيل نحو ظهور حلول اجتماعية تطيح بكلّ الواقع الأليم الذي عانته الإنسانية جمعاء؛ وهو الدرس الذي علّمتنا أياه قوانين المجتمع...

  هذا الدرس يتضمّن ظهور حلول جدّيّة وثورية لم تشهدها البشرية السالفة في كل تاريخها السابق... وهذه الحلول ستقضي على أهم سلاح مدمّر، وهو السلاح الفكريّ السالف ذكره، وهو تلك الايديولوجيا التي تحكّمت بالمصير والمسار من الماضي السحيق الى الآن، وقدمّت الذكورية على الأنثويّة، وبالتالي كانت قد قدّمت الأسباب والمبرّرات وأقامت ولا تزال تقيم، الشرخ العميق، والسور العظيم بين الجنسين الآدميَين، اللذين توالدت البشريّة منهما...

  ولقد علمتنا قوانين الطبيعة الاجتماعية عدم امكانية استمرار الأزمات الى ما لا نهاية، وعلى كافة المستويات، وليس على مستوى الجنسَين فحسب، بل على المستوى السياسي والاقتصادي اللذين أدّيا الى هذا المصير المأسويّ، السيّء الذكر...

  وتبدو الحلول التي سينتجها المجتمع، قادرة على خلق نمط جديد من "الانتاج"، يعيد اللحمة الى الجسدين المتباعدين مرغمين،  عبر اسقاط ثوري أو سقوط تلقائي، للفكر المتخلف مع كل ما رافقه من فلسفات وعلوم وأوهام وسخافات معادية للعلم والمعرفة الحقّة والتجريبية الحاسمة... ولا يتطلّب الأمر ابتداع أيديولوجيا بديلة مطلقًا، تقوم على السيطرة "الانثوية" على المجتمع، لأنّ كل أيديولوجيا - كما قلنا -  هي سلاح مدمّر، سيؤدّي الى إعادة العبودية مجدّدًا الى جسم الانسانية... ويحول دون تلاحم بيولوجي وفطري بين الجنسين الآدميين؛ لذلك، المطلوب سقوط الايديولوجيا المميّزة، واعتماد التدقيق بالعلوم المرنة، والتجارب البشرية، والانثروبولوجيا التاريخية، بعيد ا عن الفرض و الارغام لأي طرف اوجهة على أخرى... وبالتالي تستعيد المرأة دورها الخلّاق في خدمة الأجيال المستقبليّة، لأنّ لها الدور الأساس في تنشئة  المواليد الجدد على  قاعدة النمو الذكوري الحرّ والقويّ، وحماية الذكورية البيولوجية، من الانحطاط والضعف، والإنحلال الأخلاقي، لا بل من بدعة المثليين الجنسيين المعاصرة التي يسعى نحوها حَمَلة الأيديولوجيا الذكورية المنحلّون والمتحلّلون والشاذون، الذين يفتشون عن تشريع الصيغ القانونية لسيطرتهم السخيفة المؤقّتة...

  نذكر ذلك، لأننا على قناعة أن النسوة هنّ ذوات المصلحة بالحفاظ على النوع، وتربية ذكور أقوياء غير منحلّين... وهذه المصلحة ذات أبعاد متعددة الوجوه، تبدأ بالتناسل لأيجاد نسل متفوّق، وبالتالي يفسح المجال لحصول الإصطفاء الطبيعي الييولوجي لا يشوّهه ولا يحول بينه وبين تحقيق القوانين البيولوجية حائل آيديولوجي... 
  هذا الأمر، طالما كانت المرأة الأم تمارسه، وتقوم بدورها الرائد في تنميته، بالتربية والأخلاق والدفع باتجاه البطولة والمغامرة والفروسية، وحماية صغارها وكبارها من عوامل الطبيعة والمجتمع، ومن العوز والضيق، عبر التضحية بالنفس وبالوقت والجهد، ونكران الذات... وعندما كانت المرأة تقصّر، فلأنها كانت خاضعة لنتائج الفكر الآيديولوجي الافتائي الخاضع للمصلحة الذكورية، السياسية والاقتصادية...الخ.

  والتغيير، المشار اليه، ليس عملية تعبوية  ثورية مفتعلة بل هو فعل اجتماعي سيفرضه قانون التطور الاجتماعي، ولا يتطلّب منها النضال والكفاح والصراع "الطبقي"، ذلك لان المجتمع  سينحني أمام الأنثى ويطلب بإلحاح  واذعان للتسليم بالدور المستقبلي للمرأة.. بعد تساقط أوراق وسجلّات الفكر الذكوري وملفاته ارضًا عند أقدام الأنثى.. بعدما يستجير من تفاقم الأزمة العامة لمواقفه التاريخية العتيقة البالية...

   آي سيأتي الخلاص على أيدي النسوة حتمًا... مما سيحرّر الرجل المكبّل اليدين، مما صنعته يداه عبر الزمن، وما كتبته أصابعه من قوانين واجتهادات ودساتير وملفّات باطلة بالأطنان ولم تستطع تقديم الحلول الناجعة التي تمهّد الطريق للانسجام مع التطوّرالتكنولوجي والعلمي الذي يحوّل الأرض الى قرية كبيرة تعيش فيها عشيرة الانسانية جمعاء، دون سلاح الايديولوجيات ولا سلاح الحديد والنار والنووي والذرٌي والنانوي.
     
  ومن الآن والى أن يتحقّق ما ذكر أعلاه لا بد للبشرية من المعاناة الدامية المتوقعة، كما كان يحصل غالبًا عند كل عملية تغيير اجتماعي، او عند الانتقال من نمط انتاجي قديم الى نمط انتاجي جديد بديل مناسب للظروف الاجتماعية المستجدّة...

  في ضوء ذلك، يمكن درس الوقائع الراهنة في لبنان والوطن العربي والعالم...