الأحد، 28 فبراير 2016

من ليليت الليلكية الى ليلى العامرية

  

  من ليليت الليلكية الى ليلى العامرية
    -----------------------------
         في ضوء العلاقة الفيلولوجية بين تلك الكلمات، صار من الضرورة، عدم فصل التراث العربي عن التراث المشرقي ككلّ، فنحن امام حضارات متفاعلة، على مستويات متعدّدة.. تبدو اللغة من أبرز عناصرها المشتركة، عدا عن تداول الحكايات إذا قصت، والمسطورات (إذا سطّرت) والأساطير إذا رويت..
     ولا بدّ من محاولة الاستعانة باللغة، وخاصة بلهجاتهاالمختلفة، من أجل التحقّق من بعض المرويات أو المدونات، فإذا كنا في العصر الراهن نُدخل على لغاتنا الكثير من التعديلات اللهجية.. فلا يمكن اغفال التعديلات الطارئة على لغات الاقدمين، بالإضافة الى الاسقاطات الشخصية الممكنة على الأحاديث المتناقلة.. لغايات في نفوس الرواة، وحاجات المجتمع والبيئة الاخلاقية..
     نذكر ذلك، للإشارة الى تلك العلاقة المتجليّة بين الحدث الليلكي وليليت البابلية، والتراث الشعبي العربي.. الذي رسخ اسم ليلى في الوجدان الروائي والغنائي الى أبعد مدى..             
    من هنا يمكن تناول الحدث على اساس الموروثات الثقافية..
    من هنا يجب فهم العلاقة الغنائية التي تربط بين "ليلى" والعراق.. فهل في التراث العراقي أبرز وأوضح من بابل وحكاياتها واسطوراتها المسطّرة.. طبعًا لم يعشق قيس ليلى البابلية بل ان الاسم هو المتداول في الوعي القبلي العربي العريق.. من جهة انتشار التسمية أو انتشار الحدث والرواية.. من هنا نرى أن ليلى ليست سوى ليليلت العراقية التي اعتبرت رمز الانثى المعشوقة والتي مرّت بعشقها على معظم مراهقي تلك الحقبة قبل اطلاق اسم آخر على سيدة الاحلام الليلكية.. زائرة المراهقين في مناماتهم.. والاسم الاكثر تداولًا هو اسم الجنية "ميمونة" على سبيل المثال..
   كل ذلك ما هو إلّا دليل على صحة المنهج الجاري..
   فماذا تقول القصيدة الغنائية المشهورة؟
   تقول هذه القصيدة التي يعتبرها البعض من أجمل قصائد قيس بمحبوبته ليلى: (ننقلها على ذمة الناشر كما يلي)

[يقولون ليلى في العراق مريضة 
فيا ليتني كنت الطبيب المداوي

فشاب بنو ليلى وشاب ابن بنتها
وحرقة ليلى في الفؤاد كما هيا

على لئن لاقيت ليلى بخلوة 
زيارة بيت الله رجلان حافيا

فيارب قد صيرت ليلى هي المنى
فزني بعينيها كما زينتها ليا

والا فبغضها الي واهلها
فاني بليلى قد لقيت الدواهيا

يلومون قيسا بعدما شفه الهوى
وبات يراعي النجم حيران باكيا

فيا عجبا ممن يلوم على الهوى 
فتى دنيفا امسى من الصبر عاريا

ينادي الذي فوق السموات عرشه
ليكشف وجدا بين جنبيه ثاويا

بساحرة العينين كالشمس وجهها
يضيء سناها في الدجى متساميا]
------------------------------
  بعد العشق العظيم لهذا القيس لا بد من ايراد فصول من سيرته قبل الجزم بحقيقة الحدث، كما وردت لدى البعض:

   قصّة قيس وليلى
   كم كانت أيّاماً جميلة تمرّ في ذاكرة قيس بن الملوّح، تلك الأيّام الخوالي الّتي كان يرعى فيها أغنام والده مع ابنة عمّه الحبيبة ليلى العامريّة، فكانت البراءة تغزوهما في لحظات لعبٍ وضحك ومسامرة يتشاركان بها، ومع نموّهما نما الحبّ في قلبيهما، ولكن قيس يظهر هذا الحبّ، وليلى تخفيه في أغلب الأحيان.

   عُرف الحب العذريّ بين قيس وليلى وكان واضحاً في القصائد الّتي كتبها قيس لمحبوبته، وكان حلم قيس أن يتزوّج منها، فبدأ يجمع المهر لغاليته فجمع لها الخمسين من النوق الحمر: وهي أغلى أنواعِ النوق عند العرب، وكانت تسمى حمر النّعم. وتقدّم قيس إلى ليلى وطلب يدها من عمّه، ولكنّه فُجع بالرّفض؛ لأنّ أهل البادية لا يزوّجون شابين ذاع الحب بينهما وانتشر حتّى وإن كان عذريّاً؛ فهم يعتبرون هذا الأمر عاراً وفضيحة.

   وبعد مدّة تزوّجت ليلى من ورد بن محمّد العقيلي، الشّخص الّّذي سلب قيس حبيبته، وحطّم قلبه كما يتحطّم الزّجاج، وتناثرت أشلاؤه شعراً ينوح به ويصف فيه ليلى.

   انتقلت ليلى مع زوجها إلى الطّائف، وهام قيس على وجهه في الأرض لا يعلم له مسكن، فشهراً يكون في الشام، وشهرًا يكون في البادية، ويتنقّل بينهما وهو يتغنّى بأيّام ليلى، ويرجو لقاءها، فما عادت تطلّ عليه بسمتها، وما عاد يسمع ضحكتها، وما يلوح في أفقٍ يراه ثوبها، وما مسّها في حياته كلّها، فبقيت حلماً وشهوة تسري في عروقه إلى أن مات بها؛ حيث وُجد ملقيّاً بين الحصى في الصّحراء وعند رأسه بيتان من الشّعر يقولان:

[توسّد أحجار المهامة والقفر
ومات جريح القلب مندمل الصدر
فيا ليت هذا الحبّ يعشق مرّةً
فيعلم ما يلقى المحبّ من الهجر]

   وَلَهُ قيس وحبّهُ لليلى
   ممّا يذكر من قصص حبّ قيس لليلى وولهه بها أنّ قيس قد ذهب إلى ورد زوج ليلى في يومٍ شديد البرودة والأمطار تنهمر فيه، وكان جالسًا مع كبار قومه حيث أوقدوا النّار للتّدفئة، فأنشده قيس قائلاً:

   بربّك هل ضممت إليك ليلى قبيل الصبح أو قبّلت فاها
وهل رفّت عليك قرون ليلى رفيف الأقحوانة في نداها
كأنّ قرنفلاً وسحيقَ مِسك وصوب الغانيات قد شملن فاها

   فقال له ورد : أمّا إذا حلّفتني فَنَعَم.
   فقبض المجنون بكلتا يديه على النار، ولم يتركها حتّى سقط مغشيّاً عليه.
------------------
     تعقّب فيلولوجي  للحدث:
-------------------------
    إذا سلّمنا بالأمر، نرى أن الراوي لم يذكر العراق أبدًا بل ذكر أن الحبيبة انتقلت مع بعلها الى الطائف.. وقيس قد تجوّل في  البادية وفي الشام.. ( قد تشمل بادية العراق) ولكن دون أي علاقة بعنوان سكن الحبيبة ليلى المذكورة بالحدث.. فلماذا الاصرار على عراقيتها لو لم يكن القصد ليلى العراقية ذات البعد الاسطوريّ..؟. الأمر الذي يثير الشك حول غاية الراوي، واسقاطاته الشخصية..
     طيب، من هو (قيس) بتعقبه الفيلولوجيّ؟
     قيس:  هو القي  التقي ، والسين حرف زائد للتعظيم او الكثرة.. ومنه اشتق اسم  رجل الدين الذي ندعوه (قِسًّا) مما يكشف اسباب خفض حرف القاف..
    ومن المعروف، أن القس ينذر العذرية عادةً، ولكن لا يستطيع بسهولة التخلّص من رجوليته او ذكوريته.. وقد يتعرّّض لكثير من الاحلام الجنسية والعاطفية المباغتة، التي قد تتركه في حالة من الصراع الذاتي والنفسي، بين الرغبات وبين الواجبات العقائدية.. فكيف يعشق وهو القس التقي، وهي تزوره في الاحلام وترميه بسحرها وجمالها الفتّان؟؟
      وطبعًا؟ سيعشق ويتلوّع كثيرًا، وينشد القصائد التي تعبّر عن مكنونات صدره، ويبقى في حالته الروحية الباطنية غير الجسدية..
    لعلّ تلك الحالة هي التي  البسته الاسم الذي يحمله، وغير مستبعد ان  تطلق عليه صفة من الصفات التي تناسبه، وتعبر به التاريخ حتى عصرنا، لذلك نرى ان الكنية (ابن الملوّح) ما هي في الأصل إلّا (الابن الملوّع) وهي لهجة مطابقة جدًّا للواقع.
    باختصار انه القس الملوّع بليلى العامريّة..
   فمن هي هذه الفتية الفاتنة؟
    انها ليليت الليلية الليلكية العربية التي اعتدل اسمها الى ليلى.. ولا شك انها سحرت الفتيان بجمالها اذ انها تحمل في اسمها معنى اللؤلؤ.. واللألأ واللألاء أي النور الذي كان يتلألأ في ظلمة الليالي..
    فاذا كان هو الملوّع فهي العامرية.. لماذا؟؟
    من المعروف ان البيت العامر بلغة  عربية فصحى هو البيت المأهول أي  المسكون ، ولقد  لجأ الراوي الى هذه المعاني من أجل ان يعمل على اضفاء التعبير اللازم الذي يوحي بان هذا الشخص مسكون بهذه الفتية الصبية، ونفس التعبير يعتمد   لسكن الجنيات أو الجان.. حتى ان الضبع أو ابن الضبع الذي قد يكون مخيفًا كالجن، فلم يطلق عليه تسمية (ام عامر) عبثــًا في القاموس العربي..
   
     وليس صدفة ان يكون معنى عمار هو الكثير الصلاة والصيام..  مما يشجعنا اكثر للتنقيب عن جذور الحدث..
    ولن يستغرق الامر طويلًا لان المعنى الموثّق بالقاموس  ان :  العُمّارُ : هم سكان البيوت من الجن..
   والعمار ايضًا قلنسوة توضع على الرأس .. مما يعني ان قيسًا القِسّ التقيّ كان يعتمر عمامة، امّّا هي الجنية، قد تكون إستظلت بغطاء الرأس او المظلة.. ومعنى العربي لكلمة (العامر) يشير الى واحدة من العوامر أي الحيّات، مع التوقف عند ما تحتمله أسباب إيراد واختيار الراوي لهذا الاسم.. لانه يذكّر بالانثى الاولى أي "حواء" هي التي استمعت الى اغراء الشيطان المطل من شجرة المعرفة واطعمت آدم من  ثمارها.. وهذا ما يورده سارد اسطورة ليليث الجنية.. ومحاولة ربطها بالحدث الآدمي..
  بل ان الحديث عن الحية يؤكد على صحة الترابط بين الحدث الآدمي و شخصية ليلى العامريّة..
   بعد كل ما ورد ذكره فلم نعد نفتقر الى الدلائل التي تؤكّد على أن الحدث يتوافق مع الاسطورة البابلية..
    أوّلها ان ليلى من الجنسية العراقية، وليست مريضة بل انها (ماردةٌ) من نفس اللهجة، ( اذ ان الحرفين الضاد والدال متقاربان)، وكلمة الماردة ما هي الّا من اسماء الجان.. والتمرّد ينسب الى نمرود البابلي.. فهل كان الشاعر العاشق يلمح ام أنه حقّــًا كان يعرّب الحدث، ام انه كان يقصد "ليليت" نفسها كما وصلته الحكاية وسمعها بلهجته العربية؟ هذا ما تستطيع ان تكشفه اللهجات العربية..
  وبالتالي، فان أعتمار الغطاء على الرأس والوجه هو تقليد بابلي، كما هو معروف تاريخيًا، ويختص بتلك النوعية من النسوة اللواتي ذكرتهن المسطورات.. 
    ولا بد من التوقّف عند اسم زوج ليلى، انه ورد بن محمد العقيلي، اذ أننا نلاحظ وجود اسم (العقيلي) قد أدرج في الحدث كمرادف لكلمة ( العقيل) أي الزوج.. الامر الذي لا نزال نعتمده حتى الآن كتعبير عن الزوج ( الذي يحتمل التذكير والتأنيث)، مما يجعلنا نزيد الشكوك بالحدث وواقعيته..
   بالاضافة الى ذلك، نرى ان اسم (ورد) يؤشّر الى أحد اسماء الاسد.. ولكن هو تعبير يطلق على من يرد الماء.. ولا ننسى مطلقًا انه النبات المزهر الجميل الذي يقدم في الأعراس وعقد القران وعقل الرباط، فهو اذًا لم يطلق الراوي عليه هذا الاسم عبثًا، لانه يخدم السيناريو المطلوب.. من هنا نقول ان اسمه يعبّر عن باقة (ورود الزواج)..
   ومن المعروف انه ليس القيس الوحيد في التاريخ، لانه هو أحد القيسين الشاعرين المتيمين والآخر هو "قيس بن ذريح" الذي اُطلق عليه لقبٌ قريبٌ وهو "مجنون لبنى" الذي يتوفّر ملفٌّ كامل عن حياته وعن نسبه وهو من سلالة على بن ابي طالب..الخ بعكس صاحبنا قيس العذري الذي لم يجد كاتب الحدث في الويكيبيديا غضاضة في قوله (المحتوى هنا ينقصه الاستشهاد بمصادر. يرجى إيراد مصادر موثوق بها. أي معلومات غير موثقة يمكن التشكيك بها وإزالتها).. مما يزيدنا شكًا بحقيقته الواقعية..
   وإذا اردنا التطرف، نذكر ابياته المذكورة عندما ساءل وردًا عن علاقته بليلي، كما يلي:
  "بربّك هل ضممت إليك ليلى
  قبيل الصبح أو قبلت فاها
  وهل رفّت عليك قرون ليلى
  رفيف الأقحوانة في نداها
  كأن قرنفلاً وسحيقَ مِسك
  وصوب الغانيات قد شملن فاها"
  في ضوء ذلك، فانّ تطرّفنا يجرّنا الى الانتباه الى سؤاله الذي يحدّد فيه فترة "قبل الصبح" وهي فترة الأحلام، (الليلكية حيث تقبل ليليت) مرفرفةً كرفيف الاقحوان (الاقتحام) بقرون (لهجة من قران واقتران) والقرنفل (ماهو إلّا تعبير عن قرن بعل أو قران بعل) مما يذكر بالتراث البعلي البابلي والمشرقي عمومًا.. و(المسك) هو أحد أفعال الاتصال.. وما هي غايته من إيراد صوب (الغانيات)؟ أليس ذلك تذكيرًا بالعاهرات؟ طبعًا، فهو لا يقصد المطربات المغنيات اللواتي كنّ في الماضي على غير ما هنّ في الحاضر..
                    الاستنتاج
                   """""""""
    ان كل ما مرّ معنا يؤكّد ان الحدث ما هو إلّا سيناريو عربي لاسطورة ليليت البابلية القديمة، التي تزور المراهقين في أحلامهم التي تتلوّن بألوان ليلكية أو وردية ( ورد بن العقيلي)، سيما وان الكتبة والابحاث لم تستطع ايجاد المعلومات الكافية حول حقيقة العاشقين، وما أسباب رفض تزويجهما إلّا محاولة لادخال عناصر درامية تتجنّب ذكر صفة بطلنا كأحد القساوسة الذين نذروا العفة وصارعوا رغباتهم المكبوتة التي ترجمتها الاحلام الباطنية بعشق ليلى (ليليت، ليلية)، حيث يقف القس في الطرف نقيض من الجنية، المخالفة للثقافة الدينية والأخلاقية..
   عدا ما بدا، فإنّ الاخبار التي سردت على لسان الرواة لم تورد مطلقًا ذكر مرض ليلى في العراق التي قد تحتاج الى طبيب مداوٍ.. فما ذلك الّا عملية رمزية ملفتة للنظر في ذاك العصر..

    الأسباب السياسية:
   من هنا يجب ان تذهب الشكوك باتجاهات أكثر وضوحًا، إذا اعتبرنا ان ليلى العراقية ما هي إلّا رمزٌ للشعب العراقي والأمة العراقية، والانثى عادةً هي الرمز.. فاذا وجد الشاعر علّة مرضية في جسد هذا الشعب، فلأنّه يحاول التورية والترميز حول الأوضاع الاجتماعية، ضد الخلافة آنذاك.. مما يعني ان الحديث يجرنا لتسديد الاتهام للحركات الباطنية المعارضة والتي أغلبها كانت حركاتٍ فارسية مناهضة للسلطات.. تلجأ للتخّفي خلف الرموز هربًا من عيون وآذان أعيان الحكم القائم، وتضليل اركانه..
   واذا، أقبلنا نحو عصرنا الراهن، نجد في الرمز شرعية حقيقية، لانّه فعلًا صارت ليلى رمز الأمة العراقية العريقة، مريضةً حقًا، على يد من تمنى في الماضي ان يكون طبيبها المداويَ..
   
   ومن جهة أخرى، فمهما زادت القصائد التي تتغنّى بليلى لا يدلّ ذلك إلّا على تراث عريق (من جذر العراق الراقي) ولا يجوز حصره بشاعر واحد، بل قد يلجأ كل  واحد منهم على التغزّل بليلى كرمزٍ راسخ في الوجدان الشعبي والشبابي، وقد يستمر الى عصرنا الراهن دون منازع، فليس كل من ذكر ليلى هو عاشقها الحقيقي.. رغم كونه عاشقًا ملوّعًا (ملوحًا) لاحت على محيّاه تقاسيم الشغف والحبّ..
  ازاء ذلك،
  لن تكون ليليت هي الفريدة 
  لن تكون ليلى هي الوحيدة
  لن تكون عشتار، واناة و عناة، وفينوس..
  لن تكون أفروديت هي الفريدة
  فلكلّ شعب جنيته
  ولكل مراهق أحلامه
  ومن الواضح لم تكن ليلى هي المريضة بل ان عشاقها هم المرضى الحقيقيون..
  فهل ننسى "ميمونة" ككنية أخرى لتلك الجنية العربية الباقية  بامتياز في ثقافة بعض الشرقيين؟!؟!؟

      دلائل أخرى
     ----------
    قد نجد في تراثنا الأدبي، دلائل أخرى على استخدام الرمز الليليّ، في اتجاهات متنوّعة، مما يدلّ على عدم واقعيته، ذلك لانّ ليلى لم تكن عراقية، بل كانت في احدى القصائد حبشية سوداء.. مما يؤشّر الى تعدّد هؤلاء الشعراء العشاق، الذين وجدوا في ليلى رمزهم المناسب.. مثال تلك الأبيات الغنائية التالية:
    [عشقتك يا ليلى وأنت صغيرة ... 
    وأنا ابن سبع ما بلغت الثمانيا 
    يقولون ليلى في العراق مريضة ... 
    ألا ليتني كنت الطبيب المداويا 
    و قالوا عنك سوداء حبشية .... 
    ولولا سواد المسك ما انباع غاليا 
    وفي السمر معنى لو علمت بيانه .... 
    لما نظرت عيناك بيضاً ولا حمرا]

   ولم يغفل الطرب الأصيل المعاصر تلك الأبيات الايقاعية الغنائية، فراحت تحلّق في أجواء المسارح بأجمل الأصوات والألحان، تصدح بها حنجرة فيروز بصوتها الخالد، كما يلي:
 [أعد الليالي ليلة بعد ليلة .. 
 وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا
 وأخرج من بين البيوت لعلني .. 
 أحدث عنك النفس بالليل خاليا
 تراني إذا صليت يممت نحوها .. 
 بوجهي وإن كان المصلى ورائيا
 أصلي فلا أدري إذا ما ذكرتها .. 
 أإثنين صليت العشا أم ثمانيا
 وما بي إشراك ٌ ولكن أحبها .. 
 وعظم الهوى اعيا الطبيب المداويا 
 أحب من الأسماء ما وافق آسمها .. 
 وأشبهه أو كان منه مدانيا]
   ونلاحظ بوضوح تلك العلاقة بين ليلى والليل، وبوضوح أكثر أن المرض الحقيقي هو لدى الشاعر العاشق وليس لدى المعشوقة.. لان ليلى التاريخية، إذا صحّ الحدث، كانت معقولة مع "العقيلي" تطوف في الطائف، بعيدًا عن العراق..
   لذلك، نرى بكثير من التأكيد أن الحدث أيّاه ما هو إلّا حدثٌ افتراضي، وان قيس هو رمزٌ يشمل كل القساوسة الذين نذروا العذرية وعانوا ما عانوا وصارعوا عذريتهم، وضحّوا بغريزتهم الجنسية وقاوموها في سبيل الحرص على نذورهم..
   وبالمقابل، ان ليلى ما هي إلّا الرمز الانثوي الذي يغري الذكور، ويدخلهم بالخطيئة، ولم يجد الراوي أفضل من الاستعانة بالرمز المناسب وهي الجنية (ليليت) التي تعمل على اغراء المراهقين وتجرّهم الى الدعارة التي كانت (مقدّسةً) في التراث البابلي، والفينيقي، وانتشر في كل الشرق، قبل وضع القيود على العلاقة الجنسية، وتقنينها ضمن شروط أخلاقية جديدة وفروض دينية محكمة، مع انتقال المجتمع الرعوي الى العلاقات الزراعية، حرصًا على الملكيات.. ( ذلك على سبيل المثال لا الحصر).. من هنا أنفي ان تكون القصائد المنسوبة الى قيس الملوّع تعود الى شخصٍ واحد..
   ولان ليليت هي الرمز، فقد صارت موضع اهتمام العشاق والشعراء، وصار كلٌ منهم ينسب عواطفه الجياشة الى (ليلى) العامرية (التي تعني جنية) بلهجة عربية كما قلنا.. ولكن كان احدهم يقصد انثاه وحبيبته.. وتوارثنا جميعًا الحدث عبر الزمن، وصار أبرز هتافاتنا لدى التعبير عن الطرب والاعجاب: يا ليل يا عين..  والليل ما هو إلّا لهجة من ليليت كما قلنا هي اللألأ الليلي في ظلمة الليالي.. 
    *** وهكذا، نشير الى الامكانيات التي تستطيع ان تقدّمها الفيلولوجيا العربية..
   وهكذا، أيضًا يجب أن نقرأ كتاب المفكّر "صادق جلال العظم" عن " الحب والحبّ العذري"..
     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق