الحلم والأحلام
كنت قد نشرت على صفحتي الفاسبوكية نصًّا سريعًا يتضمّن تحليلًا فيلولوجيًّا لكلمة "حلم" العربية، بسبب ما تحمله من معانٍ غنيّة، وذات أبعاد بسيكولوجية هامّة، وذلك في الخامس من سبتمبر ٢٠١٦ولا يزال موثّقًا، ونذكّر بذلك لأنّه وجدنا أحد البحاثة الذي تناول هذا الموضوع، مما سنعرضه لاحقًا؛ وفيما يلي ما ورد في النصّ مع بعض التوسيع:
"الحلم" في فيلولوجيا العربيّة:
يتواصل الجذر الثنائيّ مع كلمة "الحلّ"، لذلك يمكن أن نستنتج أنّه وجد الكثير من المفكرين الحلول لمشاكل ومسائل معقّدة في الأحلام. ونذكر كم غير أرخميدس، استيقظ فجأة ليصرخ "وجدتها وجدتها.."، علمًا أن حرف الميم الثالث يجوز أن يكون للتمييم.
ويجوز لنا أن نشتق من الجذر "حل" معنى الحلولية، والحضور الروحيّ، وطالما كانت الأحلام تستحضر أرواح الموتى الأعزاء.
ومن تفسيراتها "الحلولية (وحدة الوجود الروحية) هي الاعتقاد بأن الإلٓه يحلّ في بعض بني الإنسان، وقد عرفت هذه الفكرة في المسيحية حيث يعتقدون أن الله حل في المسيح...الخ".
أمّا إذا أخذنا الجذر الثنائي "لم" فهو يتواصل مع "لمّ يلمّ" أي جمع يجمع. أذ ان الحلم قد يجمع المتفرّقين ويلمّهم وقد يكون وسيلتهم في العزاء والشوق والحنين إلى الأحباب والأصحاب والأهل؛ ولا يتناقض ذلك مع الناحية المعرفيّة التي ترد عادةً في الدراسات، لأنّ الإنسان يعبّر "بالحلم" عن رغبة باطنيّة للإجتماع بمن يرغب... وكذلك بالعكس قد يشعر "باللوم" والندم على تصرّف من التصرّفات والأخطاء التي قد يكون نفّذها، والفعل "لام يلوم لومًا" هو لهجة من الجذر "لمّ يلمّ لمًّا".
ويتواصل "الحلم" مع الحلى والحلاوة والجمال، لذلك يسمّون بناتهم "أحلام" دون تردّد؛ فهي ظاهريًّا صيغة الجمع لكلمة حلم، ولكنّها في الحقيقة هو اسم (أحلى) مع التمييم أي أجمل... ويتواصل مع أنواع "الحلى" والزينة، ومن أنواعه ما ندعوه بالعامية "الحلق" أي قلّادات الآذان، مما يجعلنا نشير الى معاني الجذر "حلّق، أي طار"؛ وكأنّنا نحلّق ونطير بواسطة الحلم... وذلك شعور باطني صحيح.
وحتى لا يغيب عن البال معاني الجذر (حلُم حِلمًا) نورد من معانيه:
حلُم حِلْمًا صفح وكان ذا حِلمٍ فهو حليم، مما يعني أن "المنام" يؤدّي هذه الخدمة النفسيّة، حيث تهدأ النفسُ وتصبر، وهو ضد الطيش، وهو للصبر والأناة والسكون مع القدرة والقوّة، بل هو العقل، ويورد منجد العربيّة تعبيرًا (تأمرهم أحلامهم بكذا) أي عقولهم... ولم يغفل المنجد قضية البلوغ والادراك إذا حلم الصبيّ؛ ومن المعلوم أن الفتى يحلم كثيرًا عندما يبلغ مرحلة الاحتلام، ونكتفي بذكر الحَلَمة، مصدر الحليب من الثدي...
ومن اللهجات القريبة للجذر الثلاثيّ هذان الفعلان (علم وألَمّ) ويبدو أنَّ الحلم له علاقة واضحة بالتعليم والإلمام، كما أن له علاقة بالعلامات والإشارات... وتسعى المختبرات العلميّة والدراسات التجريبيّة المتأخّرة والحديثة لإيجاد وسائل تعليمية عبر النوم.
وربّ سائلٍ عن علاقة "الألم" والوجع بالحلم، نعم هناك علاقة وثيقة، حيث يقوم الحالم بعلاج آلامه وأوجاعه بالأحلام؛ ولا بدّ من ذكر أهمية النوم لدى الإصابات بالأمراض والآلام، بل أكثر من ذلك أهمية الإيحاءات التي تتجلّى في الأحلام وتخدم نجاح المعالجة...
ولا نقف كثيرًا عند الجذر الثنائيّ بإغفال حرف اللام، فنحصل على (حم)، الذي يفيد معنى الحرارة والتحمية، كأنمّا الحلم والمرئيّات في المنام ذات علاقة بالحرارة، وذلك صحيح لاسيما بسبب حالة مرضيّة...
ويتواصل مع هذا الجذر كلمة " الحميم" وهو القريب الذي نهتم به، والصديق، وطالما وجدنا في الأحلام "الأحماء" وهم الأصدقاء والأحباب. ولن نغفل عن رمز طير "الحمام" في الحلم والواقع...
كل ما تقدّم مترابط منهجيًّا ويدلّ على موقف الناطقين بالعربية من موضوع الحلم، وكأنّه يعرض علينا بحثًا بسيكولوجيًّا عميقًا عن الأحلام.
مقاربة مع الموقف البحثي:
كل ما عرض أعلاه، يتجاوز الجهود التي بذلها "ابن سيرين" في تفسيره الأحلامَ، وتجاوز الدراسات العظيمة التي بلغها "سيغموند فرويد" وغيرهما، في تناولهم للأحلام، ونقفز الى الفرنسي "توبي ناثان" الذي وصف بعالم نفس متميّز وعبقري ورائد علم النفس الانثروبولوجي الذي قيل أنّه طوّره بنفسه صاحب كتاب "أسرار أحلامكم"، وكان قد نشرت ترجمة الحوار معه في العدد ١٢٦من مجلة "الدوحة"، نقتطف منه أبرز المواقف:
الحلم فرصة، أن تحلم هو أن تخترق عالمًا مختلفًا، ففي كل ليلة نشهد نوعًا من العصف الذهني، تتلاطم فيه الأفكار والمشكلات، والتساؤلات الأكثر حميميّة وحيث السعي الدائم إلى إيجاد الحلول... قد يكون من المناسب تذّكّر أحد هذه الحلول...
أي أنّه يصبّ بالبحث اللغوي العربيّ نفسه، في الجذر "حلّ يحلّ" المشكلات التي أوردناها أعلاه. ويضيف: علينا أن نؤلِّف ونبني أفكارنا. وفي الليل، نربط الاتصال مجدّدًا ونعود الى وضعنا الطبيعي.
أي أن ربط الاتصال له علاقة بالجذر "لمّ يلمّ" جمع يجمع...
ويقول: كل الأحلام تسعى لأن تكون مفيدةً، ولكن في بعض الأحيان تفشل في أداء مهمتها... يتحوّل الحلم الى كابوس، انه حلم الفشل... الكابوس الحقيقي عندما تكون مشلولًا جسديًّا وانت تعي ذلك وهذا يحدث كثيرًا للأطفال، لأنّ التنسيق العصبيّ لديهم لا يكتمل إلّا بعد سنّ١٥... وهناك كوابيس عبارة عن إشارات إنذار من الفكر.
وذكر الباحث لسنّ المراهقة يصبّ في بحثنا اللغوي، حيث يتواصل "الاحتلام" بالمراهقة وبأحلامها.
ويؤكّد "ناثان" : كل حلم يقدّم العديد من الحلول. عندما نحلم نخلط كل الإحتمالات... والحلم هو دليل على عمل جديد. إذا كنت تولي اهتمامًا بأصوات العالم الداخليّة فيمكنك ضبط البوصلة في الاتجاه الصحيح... الحلم أداة تحفزك للعمل... ولا يستقيم التفسير إلّا بشروط: يهدّئ الروح، يحلّ المشكلة، وقبل كل شيء، يقترح فعل ما في الحياة الحقيقيّة.
ذلك حديث عن الاشارات والعلامات التي يقدّمها الحلم.
ومما قاله الكاتب، انّ الحلم مصدر معرفة وبالتالي الحكمة؛ ونستنتج أنّه تواصل مع "الحلم والصبر والعفو عند المقدرة الذي ذكرناه أعلاه"...
بعد هذا العرض المقارن، نخلص إلى أن الكاتب لا بد قد أطلع أو أدرك اللغة العربيّة، وأخذ منها ما يسهل له دراسة الأحلام وأسرارها، وهو لم يأتِ على ذكر أكثر ممّا تكشفه فيلولوجيا العربيّة، (بغضّ النظر عمّا يتضمّنه كلُّ كتابه)... وتبادرنا سيرة حياته لتؤكّد صحّة الاستنتاج، فهو من مواليد القاهرة ١٩٤٨، يعني أنه قد يكون ناطقًا بالعربية منذ الطفولة؛ أكثر من ذلك، يدل اسمه "توبي ناثان" على انتمائه اليهودي، وقد يكون أتقن اللغة العبريّة، وهي مشرقية متواصلة مع العربيّة وسائر اللغات المشرقيّة. ومرجعنا مجلة "الدوحة" صـ ١٤٨
لنقلْ في النهاية: الفيلولوجيا العربية قادرة على المساهمة في تقديم المعارف العلمية المناسبة على عدّة مستويات متنوّعة، وجاهزة للمشاركة في الأبحاث الحديثة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق