بين الرياضة والرياضيات
لم يكن الأمر مزاحًا بل هو من الجديّة بمكان، ومكانه هام جدًا، فقد تكشّفت علاقة وثيقة بين الرياضة والرياضيات عبر التاريخ، ولقد حفظتها اللغة العربية كما حفظتها في اللغات الأخرى... ولكن أن يحصل ذلك في لغتنا فيعني أن الأمر محلّيٌّ بامتياز ومتجذّر في الحضارة العربيّة والمشرقيّة...
من المعروف أنَّ الرياضة هي عملية ترويض، منهم من قال بترويض الذات، ومنهم من يعمل بترويض الحيوان؛ إمّا ترويض الذات فهو عملية ذات وجهين، الجسدي أو الروحيّ، أي الباطني، أو الأصح هو نفسيّ، بالتعبير الحديث.
ونرى في التعبير الأساسيّ، علاقة بين الرياضة والروض والرياض، ممّا يعني أنّ الرياضة تقام في الغالب في الروضات المزروعة بالخضار والأزهار، وتجري فيها المياه عبر مجارٍ وقنوات وسواقٍ، أو نوافير ومرشّات، فهي جنائن غضّة، مغروسة بالأشجار المثمرة والنباتات العطرة، لتساعد على التأمّل، والاسترخاء، وإطلاق الروح، وتدريب النفس، وتنفّس الهواء العليل، وشرب الماء السلسبيل...
ونرى في ذلك علاقة بين النفْس والنفَس والتنفّس، كما نجد تلك العلاقة بين الريح والروح والرائحة، أي أن كل هذه الأجواء مساعدة على الرياضة التي نحن في صددها، إذ انَّ كلّ تلك العناصر متوفّرة في الجنائن والحدائق؛ والجنة ليست سوى لهجة حقيقية من الجُنينة، وهذه الأخيرة صيغة تصغير مشتقة من الجنّة، حتى أن وصف الجنة الموعودة ليست سوى وصف للجنائن التي عرفها الإنسان، مع المغالاة بوجود الأنهارالدافقة بالمياه واللبن والعسل والخمر؛ ولا نستغربنَّ، أن تكون الرياضة بحد ذاتها هي للوصول الى تلك الحالة من النشوة، التي توفّرها الرياضة الباطنية أو الروحية أو "الإيحائية"...
ومن كلمة الجنة، نشتق كلمة الجنّيّ، وكم حاول الكثيرون إيجاد الطرق في محاولة منهم للاتصال بالجان، من أجل الحصول على كنوز مخبؤة ومرصودة، أو الحصول على معلومات غيبية ماضية ومستقبلية، أو إيجاد حلول لعقد ومشاكل بشرية، بل للتأثير على مجرى الأمور الإجتماعية، وتوجيهها نحو رغبات المريدين بل للاتصال بأرواح الموتى الأعزاء أو لتلقي معلومات لازمة؛ وهذه العمليات تخضع لطرق وأساليب متعدّدة واعتماد حرق البخور، وتكرار جمل لوقت معيّن، أشبه باللازمة أو "المنترا" الهندية؛ وربما بعض أنواع الصوم وتناول بعض الأطعمة المحدّدة أو الامتناع عن بعضها الآخر، ولا يتوانى العامل في هذا المجال عن تحقيق العزلة والصمت في أمكنة هادئة وبعيدة عن الناس. وكل ذلك بهدف الإتّصال بعوالم غير مرئيّة، يعتقد أنّها موجودة خارجه وليست في وعيه الباطنيّ. ويرى هؤلاء أنّ الجان نوعان، علوية خيرة، وسفلية شريرة، ولكن لا يتوانى عن محاولة الاتصال بالسفلية لأغراض "سافلة"، مع العلم أن كل ذلك ليس سوى عمليّة وهميّة ايحائيّة باطنيّة لا تتعدّى الذات البشريّة الداخليّة للإنسان، كما جزمت البسيكولوجيا الحديثة وسائر الدراسات والتجارب العلمية... ذلك لأنّ الأمر ما هو إلّا تهيُّؤات وهلوسات، قد تحصل أحيانًا للبشر بشكل تلقائيّ، وخاصة الصغار والفتيان، دون رياضة أو تأمّل أو حرق بخور، كما حصل في القصة الخرافية "السندباد وخروج الجنّيّ من القارورة"؛ وبالتالي فإنّ هذه الرياضات قد نجح فيها وصدّرها للعالم الفكر البوذيّ، وسائر الفلسفات الناتجة عنه والتيارات الثقافيّة التي خدمت واقع الفقر المدقع الذي يعيش فيه الشعب الهنديّ منذ أزمنة بعيدة. بالإضافة إلى الثقافات الموروثة من الحضارات العريقة في التاريخ، كالرافديّة، البابلية، والفرعونية وصولًا إلى الإغريقية...
من هنا من حقنا أن نتساءل، أليست "اليوغا" هي رياضة تجمع كلّ تلك العناصر، وتشبهها؟! وهي بالذات أليست طريق الوصول الى تلك النشوة المبتغاة؟ وهذه النشوة تُسمّى "النيرفانا"، وهي التي صدّرت هذه المعارف باتجاهات مختلفة، وانتشرت شمالًا وجنوبًا، وشرقًا وغربًا.
وكل تلك الرياضات تعتمد تعبير "الترقّي" الروحيّ أو الباطنيّ، وهو لغويًا الارتفاع، والمقصود الارتفاع الى عوالم عالية، بواسطة "الڤوياج أسترال" أو الرحلة الروحيّة، وبالتالي فإنَّ الترقّي اليوغيّ يسعى نحو النيرڤانا، الذي يصبّ في نفس المصبّ، وإذا قرأنا التعبير إيّاه بالعربية فسنحصل على "نور الفناء" أو نور العدم، والآخرة تحتمل الوجهين، كلا الجنة والنار، وكذلك "النير- ڤانا"هي أيضًا نور الفناء أو نار الفناء... ولكن في الرياضة يتمّ الوصول الى الجنّة، أو السعادة العارمة...
ولقد اعتمدت بعض الحركات على أنواع المخدرات لكي توحي للمريدين لديها بأنهم تلمّسوا الجنّة الموعودة...
وعلى الهامش، فإنَّ مروِّض بعض أنواع الحيوان يسمى سائسًا، والسائس هو السياسيّ من الجذر اللغوي ساس... ويرغب بعض الكتبة بالتقريب بين السياسي ومروّض الحيوانات بالجملة، والمقصود وجود قدرة لدى بعض السياسيين بالتأثير على الجمهور الذي يكون كأنّه مخدّرًا أو مجرورًا الى الولاء للزعيم السياسيّ...
على كلّ حال، فإنّ موضوعنا، هو العلاقة بين الرياضة والرياضيّات، فهل هناك علاقة بين كلا الرياضيَّين؟ أي بين العامل بالرياضيّات والعامل بالريّاضات! لأنّه طالما وجدنا في التحركات الروحانية الكثير من الأشكال الهندسية والأرقام والحسابات الى جانب جملٍ غامضة ناقصة أو مقتطعة من كتب يقال عنها مقدّسة أو معتمدة في هذا المجال... ولم يغبْ ذكر أسماء بعض الفلاسفة الإغريق أو الهنود أوالتوراتيين وغيرهم، عن صفحات كتب التنجيم والأبراج، الشعوذة؛ وبالمقابل، من الملاحظ غياب كلّيّ للرياضات الجسديّة، التي تُعنى بصحة الجسد وقوة العضلات والمقاومة والمصارعة، بعكس الفكر الأسيوي الذي يجمع بين الرياضة الروحية والرياضة الجسدية، في بعض مجالات التدريب على الدفاع عن النفس ، مثل الكاراتيه والجيدو وغيرها...
وفي التراث العربي، يطلق على الرياضة الروحية تعبير "التصوّف"، واجتهد المجتهدون لتفسير التعبير بالصوف أو بلابس الصوف أو بالصفاء وهو الأفضل بينها، مما يناسب تعبير الفلسفة التي قد تعني (علم الصفاء) لأن "فلا" تعني ربى يربّي، "سوفيا. صوفيا" تعني بتقديرنا "الصفاء" فيما يعتبرونها (الحكمة). ولا شك أن التصوّف يجب أن يؤدّي الى الصفاء، وهو عملية تتواصل بالمضمون مع الفكر الهندي ورياضته التأملية وتقنيته.
ولا يكفي الحديث السريع عن تلك العلاقة الرياضية دون الكشف عن المزيد من المبرّرات في التراث البشري، شرقًا وغربًا، والأبرز بينها تلك الكلمة العالميّة، "ماتيماتيك" التي تكتب بالصيغة اللاتينية المعروفة عالميًا،
mathematique
*الماتيماتيك
يجوز كتابتها بالعربية "مت ماتيك"... وربّ قائلٍ ما العلاقة بين اللغتين العربية واللاتينية، عدا عن العلاقة التاريخية المعروفة عندما انتشر العرب بلغتهم في أقاصي المعمورة وأتقنوا النطق بلغات عديدة... وخاصة باللغات ذات الجذور اللاتينية؟! مما يدفع لاكتشاف تاريخ العلاقة الفينيقية القديمة السابقة لكل ذلك، وتوكيد العلاقات اللهجيّة والمعنويّة بينهما، بل أكثر ما يهمّنا هو التواصل بين المضمون والمعنى...
وهكذا، يحفظ لنا القسم الأوّل، الكثيرمن المعاني منذ تمّ اختيار هذا التعبير وإطلاقه على مضمونه، ومنذ نطق به أوّل متحدّث في التاريخ...
الجذر الأوّل، "مت أو متّ" ونحن نعلم أنَّه يعني بوضوح "اتصل"، يعني أن الجذر يؤشّر على أنّ "الرياضيات" باللغة اللاتينية العالمية هي وسيلة اتصال وتواصل، ولكن <بمَنْ وبِمَ ولِمَ إلامَ>...؟
ومن السهولة إدراك العلاقة بين الجذر متّ يمتُّ وماتَ يموتُ موتًا الميْت، والمائت...
ويعني لنا ذلك الكثير، أي أنَّ الإتصال هو في الأصل مع الأموات، أو عالم الموتى، أي أرواح الموتى، الذين أصبح الأخيار منهم ملائكة في السماء بنظر أحبابهم وأعزائهم، أو أنهم أرواح شريرة في العالم السفلي... مما يتواصل مع مفهوم الجان السفلي والعلوي...
وتتعزّز القناعة بهذا المفهوم، بتكرارُ الجذر إيٌاه (مت. ماتيك)، كأنَّ الناطق الأوّل يسعى للتأكيد على أن الرياضيات هي "متّ بالمائتين" أي الاتصال بالمائتين...
ويزيدنا قناعةً، أنَّ كتابة التاء اللاتينية حرفان th، طالما قُرأناهما كحرف السين،أو الثاء، مما يفيد باللجوء الى الجذر (مسّ) وهو من أبرز أفعال الإتصال ويترادف مع (لمس)، وتلك إضافة تفسّر معنى (متّ بصلة).
وكذا القراءة المختصرة للرياضيات هي (مَتْ أو ماتْ)...
ومن المعروف أن التعبير يعود الى الفلسفة اليونانية حيث جمع الفلاسفة الإغريق بين الفلسفة والأرقام والرياضيّات والجبر والهندسة... وخاصة حساب الأشكال الهندسيّة و المسلمات الاقليديّة التقليديّة... وأبرز هؤلاء الرياضيين ممّن جمعوا بين الرياضيات والرياضة هو "بيتاغور".
*بيتاغور الرياضيّ
فماذا عن بيتاغور؟ لنفتّشْ!
تنشر الويكيبيديا بعض المعلومات:
هو فيلسوف وعالم رياضيات يوناني، مؤسّس الحركة الفيثاغورية كما يُعرف بمعادلته الشهيرة (نظرية فيثاغورس). والمعلومات حوله مأخوذة من مؤلّفات كتبت بعد قرون من وفاته، لذلك لا توجد معلومات موثّقة حول افكاره وأعماله. ولد في جزيرة "ساموس" وسافر إلى بلاد عديدة منها اليونان ومصر وربمّا الهند. أقام في مستعمرة "كرتون" اليونانيّة في إيطاليا حوالي سنة 530 ق.م. حيث أنشأ مدرسة لمناقشة موضوعات فلسفية مختلفة، مثل ماذا يحدث للروح عندما يموت الجسد؟!. (وعلى الهامش كلمة "كرتون" لهجة من "قريةٌ").
وتقول المعلومات، لقد اهتمّ فيثاغورس كثيرًا بعدد من المواضيع العلميّة والرياضيّة والموسيقيّة حيث أظهر العلاقة بين شدّ وإرخاء السلك (الوتر) والنغمة الموسيقية التي يبعثها عندما يُنقر عليه في فترات منتظمة، وتكون النتيجة سلّمًا موسيقيًّا هرمونيًّا.
وهو صاحب نظريات رياضية التي سمِّيَت باسمه، مبرهنة بيتاغورس، وهي علاقة أساسية في الهندسة الاقليدّية، بين أضلاع المثلث، قائم الزاوية... وبالتالي سجلّت الكتب أنّه إلى جانب كونه رياضيًّا وفيلسوفًا فقد كان عالم فلك أيضًا...
وتقرّ المعلومات، أنه تحاك حول شخصية بيتاغوراس العديد من الروايات والأساطير ويصعب التحقق منها حيث يروى أن بيتاغوراس الساموسي ولد في جزيرة ساموس على الساحل اليوناني. في شبابه قام برحلة إلى ميزوبوتاميا (وهي منطقة ما بين النهرين أي الرافدين أي العراق) وأقام في منف (بمصر) 10 سنوات ثم بالإسكندرية؛ حيث تابع دراسته هناك وبعد 20 سنة من الترحال والدراسة تمكن بيتاغوراس من تعلم كل ما هو معروف في الرياضيات من مختلف الحضارات المعروفة آنذاك؛ لكن عندما عاد بيتاغورث إلى مسقط رأسه إضطر للفرار منه وذلك لمعارضته للدكتاتور بوليكراتس في ما يخص الإصلاحات الإجتماعية. في حوالي 523 ق.م إستقر بيتاغورث في جنوب إيطاليا في جزيرة "كرونوس" حيث تعرّف على شخص يدعى "ميلان" وكان من أغنياء الجزيرة فقام ميلان بمساعدة بيتاغوراس مادّيًّا. في هذه الأثناء ذاع صيت بيتاغوراس واشتهر، إلّا أن ميلان كان أشهر منه آنذاك حيث كان عظيم الجثة وحقق 12 فوزًا في الألعاب الألمبية الأمر الذي يُعتبر رقمًا قياسيًّا آنذاك. كان ميلان مولعًا بالإضافة للرياضة أيضًا بالفلسفة والرياضيات مما جعله يضع قسمًا من بيته في تصرف بيتاغور، حيث كان يكفي لإفتتاح مدرسة.
إهتم أهتمامًا كبيرًا بالرياضيات وخصوصًا بالأرقام وقدّس الرقم عشرة لأنّه يمثل الكمال كما اهتم بالموسيقى وقال ان الكون يتألف من التمازج بين العدد والنغم.
أجبر فيثاغورث أتباعه من دارسي الهندسة على عدة أمور قال إنّه نقلها عن كهنة منف (بمصر) المزاولين للهندسة، وهي كالتالي:
* ارتداء الملابس البيضاء.
* التأمل في أوقات محددة.
* الأمتناع عن أكل اللحوم.
* الأمتناع عن أكل الفول.
والتعليق المناسب والمختصر في تحليل المعلومات أعلاه، أعلنه بيتاغور بنفسه أن الكون يتألّف من التمازج بين العدد والنغم، الأرقام والرياضيات والموسيقى، عدا عن وضعه "تقنية" الرياضة الروحيّة والتأمّل وأنواع الصوم المفيد لهذه الرياضات الباطنيّة، وكذلك شروط العمل في الهندسة وهي ليست سوى رياضيات بامتياز. (ونلفت الى أن العمارة القديمة في حدّ ذاتها ذات طابع ميتولوجي وروحي، إنْ كان في بابل، أمْ في مصر الفرعونية، أو المعابد الفينيقية)...
والحديث عن شخصية ميلان الذي تعرّف به بيتاغور، يفسح المجال لنا بالتأكيد على العلاقة بين الرياضة العضلية والفروسيّة، وبين الرياضة الروحيّة، حيث كان كلاهما يمارسان الرياضة ويخوضان المباريات التي تتطلّب القوة العصبيّة والعضليّة.
بعد هذا العرض، هل من شك بأن الرياضة بحدّ ذاتها يقصد بها الرياضة الباطنيّة أو الروحيّة و(والتأمّل أي الميديتايشن) بلغة العصر... وبالتالي لدينا تأكيد واضح على صحّة التواصل اللغويّ العربيّ وحفظه للمضمون والمعاني المطلوبة واللازمة لموضوعنا...
يبقى علينا أن نقول إنّ هذا العالم العظيم، قد جال في شرق المتوسط الذي كان ذا ثقافة ميثولوجيّة ودينيّة تُعنى بالجانب الروحيّ الذي اخترعت فلسفته المناطق الشماليّة في مساحة العراق البابليّ حتى الساحل الفينيقيّ، أو المنطقة الجنوبيّة الفرعونيّة، وعتبُنا على إغفال معلومات ذكر زيارته للمرتفعات الفينيقيّة التي قصدها "جلجاميش"، وهي مرتفعات الأرز حيث نفّذ تأمّلاته الروحيّة ورياضاته الباطنيّة ورصده للسماء ونجومها وكواكبها، لذلك أطلق على إحدى أمكنة المنطقة اسم (ضهر القضيب) وهو معدول عن تعبير(دار الأديب) – هذا وفقًا لبعض الأطراف المهتمّة بالموضوع – كما أطلق على المرتفعات تسمية "القرنة السوداء" المعدولة عن "قمّة السيادة، قمة السيد"؛ علمًا أنّ هذه القِمّة بالذات لا يمكن أن تكون سوداء اللون، وهي التي كانت ولا تزال، تبقى بيضاء معظم العام، بسبب الثلوج، مما أضفى صفة الأبيض على اسم "لبنان"، كاللبن.
وهنا، لايجب أن ننسى أو نتجاوز اسم عالمنا الذي يعني "بيت الغور، أي الذي بات في الغور"، أي البائت في المغارة؛ على كل حال، لا تزال أمكنة ممارسة بيتاغور لرياضته موضع خلاف بين الباحثين...
هذا الخلاف ناتج عن رغبة كل طرف تاريخيّ باعطاء جنسيته لهذا الفيلسوف الرياضي العظيم، حتى في الداخل الفينيقيّ نفسه...
وقبل مغادرة هذا الموضوع، نلفت إلى أن الرياضة إيّاها التي يمارسها أهل "التيبت" ويطلق عليها تعبير "راجا يوغا" كانت تنفّذ في مرتفعاتهم الجبليّة، لذلك لم يكن - برأينا- أن تتوفّر الإمكانية أمام بيتاغور سوى اللجوء الى أعالي الجبال اللبنانيّة، في القرنة السوداء، وفي مرتفعات الأرز، وليس في غيرها، كما يزعم البعض الآخر..!
*ماذا عن الموسيقى؟
لا يمكن المرور السريع على مفهوم الموسيقى، التي ذكرها بيتاغور... وهو القائل (ان الكون يتألف من تمازج بين العدد والنغم)، ولنستعن بفيلولوجيات اللغة العربيّة، التي عودتنا على كشف الكثير من الحقائق المغمورة.
كلمة الموسيقى، والميوزيك، تتألّف من الجذرين (مس + قى) وتتضمّن جذر معنى (مسّ يمسُّ. أي اتصل يتصل) وبالتالي هو أحد أبرز أفعال الاتصال ذلك لأنّه تطور عبر الزمن ليعبّر عن المسّ الروحيّ أو الملائكيّ الشيطانيّ أو الباطنيّ، ولا يمكن لأي باحث تجاهل توفّر تلك الإمكانية التي تقدّمها الأنغام والايقاع لتحقيق الاتصال المقصود... وبالتالي فإنّ القسم الأوّل من الجذر هو عربيّ بامتياز...
وماذا في القسم الثاني (مس قى) أو مس ك)؟ الجذر الثلاثي م. س. ك. يعطي معنى (المسك) وهو أحد أفعال الاتصال أيضًا، أو الالتقاط، أو النجاح في الحصول على الحظوة.
وكذلك، فإن حرف القاف، يتواصل مع التقوى والوقاية والقوة والتوقّي، وكلها تصبّ باتجاه حماية الذات و ردع المصائب والويلات واستحضار القوّة، وهي بحد ذاتها (تتواصل مع تقى وتقوى. وعبادة وميتولوجيا)...
أمّا إذا اعتمدنا حرف الكاف الشبيه بحرف القاف، باللهج واللفظ، فهو أيضًا ميتولوجيا، ذلك لأنّ "الكاف" حرف يؤشّر إلى أحد أركان الثالوث الفرعونيّ المقدّس، الذي يتألّف من (كا با كو). ويعني مما يعني حسب الباحثين أنّه الشبيه أو القرين أو الروح؛ وفي العربية حرف الكاف هو حرف جرّ للتشبيه بمعنى "مثل"؛ ويمكننا أن نحصل على تعبير (مسّ الروح). وبالتالي فإن كلمة موسيقى هي عربيّة بامتياز وتحمل المضامين المطلوبة، وتؤكّد على إنّها إحدى وسائل الرياضة وتقنياتها الروحيّة أو الباطنيّة للتواصل مع العالم الآخر...
ومن مرادفات الموسيقى، هو الإيقاع، من الجذر الثلاثي (وقع يقع) ومن مزيداته (أوقع يوقع ايقاع) وهو يحتلّ حيّزًا واسعًا من القاموس العربيّ، لدرجة كونّية، كأنّما اللغة العربيّة تريد أن توحيَ بعظمة الإيقاع الموسيقيّ، ومن حقّنا أن نربط بين طرقات نبضات القلب والإيقاع، التي تستأثر بالبشر منذ اللحظات الأولى من بزوغ الحياة في الرحم، وتستمرّ معه طوال العمر ويتأثّر تأثّرًا مباشرًا بإيقاعات الطبيعة ومخلوقاتها، من زقزقات الطيور وطرقات حوافر الحيوانات، ووقوع الأمطار، وحفيف الأشجار، وهدير الأنهار والسواقي، الى آخر ما يمكن أن يقع في الآذان من ألحان وأصوات رتيبة وموزونة..الخ.
وإذا كنّا نتجاوز التفصيل في معاني الجذر بسبب وفرتها، ولكنّنا لا يجب أن نتجاهل تداعياته اللهجيّة، حيث أن الثلاثي منه يبدأ بحرف العلّة الواو، وينتهي بحرف العين القابل للإهمال والتحوّل، فنجد أنفسنا أمام الجذر المناسب "وقى يقي وقاية وتقوى.. الخ"، ويتواصل مع العبادة والورع وطلب القوة والحماية، مما لا يبتعد كثيرًا عن ما مرّ معنا أعلاه، كما لا يمكن تجاهل ما للإيقاع من تأثير على الصلوات والصلات والاتصال الروحيّ أو الباطنيّ... الأمر الذي يمارس في مختلف أنواع المعابد، حيث يلجأ القيّمون، الى اعتماد الايقاعات، بواسطة آلات ايقاعية أو شفهية أو حتى فكريّة غيرمسموعة ، وذلك بتكرار لحنٍ أو نغمة واحدة لفترة طويلة، وهنا نذكّر بالثقافة البوذيّة وإطلاق ما يسمى "المنترا" لدى ممارسة الهندوس رياضتهم... وأشهرها تصويت أحرف "أوم. أ. و. م" التي تعبر عن الثالوث الهندي المقدّس..الخ. وكلّها اسمها "رياضة"...
وهنا، يلزمنا التذكير بمقولة بيتاغور، الكون هو تمازج بين الأعداد والأنغام...
ولا يجب تجاوز الآية القرآنيّة التي أظهرت إحدى صفات الله في سورة "الانعام" وجاء فيها (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ۚ ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين). مما يجعلنا نتلمس التواصل بين المعبود والرياضيات، والحساب. وهل يمكننا في هذا العصر تجاهل قدرة حساب الحاسوب الالكتروني الذي بات يستطيع انجاز الحسابات بأسرع ما يمكن! ولا ننسيَنَّ "الحساب" في الآخرة... إذًا يجب أن نتحسب الحساب لوقت الحساب... فالعمل من أجل الآخرة يستدعي جهدًا حسابيًّا ورياضيًّا بامتياز...
ولكنما لكل حساب عددٌ وأعدادٌ، فإلى أين يوصلنا البحث في العدد؟
*العدد والأعداد
العدد في (المنجد)، من الجذر الثلاثيّ "عدّ يعدّ"، وهو مرادف "أحصى وحسب"، ويحمل معنى "الظنّ"، والظنّ هو عملية باطنية ورياضية أيضًا، كما أن التعدّد هو ازدياد بالعدد، وبالتالي فإنّ العدد يتواصل مع الزيادة والاستزادة، والذي يعتدّ بنفسه يعتمد عليها، و"العِدّ" هو الكثرة في الأشياء، والعدّة من الأشياء هي جماعة منها، لذلك الذي يعدّ يسعى نحو الجمع والزيادة، كمن يمارس الرياضة لزيادة ما يريده، من مال أو اتصال أو صحة..الخ. والتعداد يحمل معنى التكرار، والرياضي يسعى نحو تكرار فعل أو ملك أو حالة، سيما تكرار العودة للحياة.
والأهم، هو الجذر المزيد "إستعدَّ" للأمر أي تهيّأ، وهنا يمكن أن نلاحظ بعض الممارسة الرياضية لاستقبال الأمور القادمة وإعداد الذات لاستقبالها، وهنا تواصل مع الجذر "عدا يعدو عدوًا"، الذي يفيد الركض والجري، وفيه تجاوز للمكان وكذلك للزمان، وتمضي الأيام ويخترع البعض الرياضة التي يطلق عليها (التأمّل التجاوزيّ)...
وطالما وجدنا المعادلات الرقمية، في الكتب التي تعمل بالسحر وفكّ المكتوب، وتحضير الأرواح، الى غير ذلك مما هو شبيه به، لاعتقاد المؤلفين بتأثير الأعداد لإنجاز المطالب وتحقيق الأهداف والرغبات...
ولا نغفلنَ تكرار القراءات الدينية وبعض ألفاظها بأعداد محدّدة، وخاصّة أسماء معبودات وآلهة، بما يشبه "المنترا" الهندية...
*الجذر "عاد"
وفي هذا الجذر تواصل مع "عاد يعود عودًا "، ومن أولى معانيه في <المنجد> الفعل الناقص "صار" ويأتي للدلالة على الإنتقال من حال الى حال...
ويتواصل مع "العيادة" وزيارة المريض، والعودة الى الوضع الأوّل؛ وهنا نستطيع الربط بين الرياضة والدعاء بالشفاء، بل بعلاج المريض، (في العيادة)، وما "العيد" إلّا استعادة مناسبة وحالة، ومن المشتقات "إستعاد"، ومن معاني العائدة (المعروف والصلة والعطف والمنفعة) أي أنّ الرياضة والرياضيات تُعنى بكل ذلك وخاصة المنفعة والمنافع... ومضمون "العواد" هو عمل المعروف واللطف، والأعود هو الأنفع، والمَعاد هو المرجع والمصير والآخرة والجنّة والحجّ، والمَعادة هو المأتم والمناحة...
كل تلك المعاني تثبت العلاقة الوثيقة بين جذر عاد و عدّ، وبين الغاية من الرياضات الروحية والرياضيات، وهي تواصل مع العالم الآخر وما فيه من أرواح الموتى الأعزاء، ومن بينها العمل على عودتهم، أو راحتهم في الجنة؛ والممارس المواظب والماهر في عمله يسمى "المُعاود".
أما العلاقة بين "عود" الخشب وموضوعنا، كونه غصنًا مقطوعًا، وكان قد عاد ونبت على شجرته، ومن "العيدان" ضرب من الطيب يُبخّر به عند ممارسة الرياضة إيّاها، مما يوحي بالعودة، والتواصل مع العود... ولا نغفلّن اعتماد بعض أنواع عيدان التبخير في الصلوات والعبادة والميتولوجيا، وحتى في حالات الإغماء والنشوة..!
*من "عدّ" الى "كتّ"
ومن المعروف أن مرادف عدّ هو كتّ، فماذا يقدم لنا هذا الجذر من معارفَ ومعانٍ؟
كتّ كتًّا: عدَّ وأحصى؛ وهوعمل رياضيّ وحسابيّ، يتواصل مع الباء فنحصل على (كتب) والكتابة... والخطّ، ونأخذ من الكتاب كلمة "المكتوب" ومنه القدَر والحكم، والفرض، وبالتالي يتواصل العد والاحصاء والحساب مع القدر، ولا نغفلَنّ الكتاب المنزل (إطلاقًا)...
وعبر الزمن، اعتمدت الكتابات التي يقوم بها ما يسمّى بالمشايخ في العمليات الباطنية، وفكّ السحر أو رمي السحر على الآخرين، وكتابة التعاويذ للخلاص من مشكلة أو عقدة...
وقد يلجأ الرياضيّ الى "الكتمان" في ممارسة الرياضات والرياضيّات، وهي لهجة من (كت. م)...
*حصى
من المرادفات لفعل عد يعدّ، الهامّة هو الفعل الثلاثيّ (حصى):
هذا الجذر يفرض نفسه على البحث حيث أنّه مصدر للحَصَى، والواحدة حصاة، وهي "صغار الحجارة"، وهو من أبرز المعاني المتواصلة مع موضوعنا، لأنّ العدّ والإحصاء كان بجمع الحصى، والحصاة نفسها تعني العدد، والرأي، لأنّ العقل يحصي أي يحفظ، ويطاق به حمل المفهومات، والحصيُّ هو الوافر العقل... وبرأينا الرياضيّات تتطلّب وفرة عقل بامتياز.
ولا بد من الاستنتاج أنه كانت "الحصى" لتعداد وحساب الماشية أو جني الثمار، وحتى لتوقيت الزمن والأزمنة، والمفاجأة هوإعتماده بعمل سحريّ إذ يذكر المنجد أنَّ (طرق الحصى، عمل من أعمال الكهانة في السحر)، ونحن ندرك العلاقة بين الرياضة الروحية والأعمال السحرية والباطنية، ويعتمدها مؤلّفو كتب الشعوذة الذين يلجأون لوضع معادلات رياضية ويشغلهم حساب الجمل، في تفسيراتهم، أو توجيهات مريديهم...
ومن المعاني الملفتة هي (حصىاهُ تحصيَةً، تعني وقَّاهُ، وتحصَّى يعني توقّى). مما يزيل الشك عن إمكانية إبتعاد هذا الجذر عن العمل الرياضة الروحية التي تبغي الوقاية والحماية وتحقيق هدف...
وللمزيد، نجد التواصل مع عدّة لهجات أخرى، مثل، حصّ الشعرَ أي حلقه، وغالبًا ما يلجأ المتصوفة وذوو الرياضة الى حلق الشعر؛ وكذلك، حصّه من المال كذا يعني حصّته منه كذا، وأحصّه أعطاه حصته، وحصّص الأمرُ ظهرَ وبانَ، والحصيص هوالعدد، والحِصْحِص هي الحجارة..الخ.
نستنتج، أن ممارس الرياضة الروحيّة، قد يسعى الى حصّة من المال، واظهار وتبيان الأمور الغامضة وكشف المستور...
ونرى أيضًا (حص. د)، كأنَّما الغاية المزيد من الحصاد، والجني، والزرع، أو (حص. ر) يسعى أحدهم لحصار عدو وغريم والتضييق والاحاطة به، وقد يلجأ أحدهم لممارسة التأمّل الرياضيّ على حصير منسوج من القصب، والحصير هو طريقٌ... (وهو المنهج والطريقة أي تقنية)... ومن الجذر (حص. ف) حصافةً، كان جيّد الرأي محكم العقل؛ أمّا (حص. ل) فذلك لتحصيل غاية وهدف من جرّاء الرياضة، وتحصيل حق، والحاصل والحصيلة هما نتاج عمليات حسابيّة، او مالية، كما المحصول؛ و(حص. ن) فيه الحصن والحصانة، والحرز في مكان حصين، والتحصّن والحماية والسلاح، والدرع، والعفّة؛ وبالتالي نجد كل تلك المعاني أغناءً لبحثنا ولكشف العلاقة الموروثة منذ الأزمنة الغابرة بين الرياضتين الروحية والجسديّة... وتدرج ضمنها عدّة صفاة يتحلّى بها الرياضيّ وأهدافه...
كل ذلك يشجّع للبحث بإحدى لهجات "حصى" وهو "حظا".
*من حصى الى حظا:
ممّا يشجعنا على مواصلة تعقّب الجذر "حظا"، هو التواصل اللهجيّ بينهما، سيما أنّنا وجدنا التواصل المعنويّ مع موضوعنا... فماذا يقدم لنا المنجد من معلومات بدءًا بالجذر الثنائي "حظّ"؟ هو النصيب من الخير والفضل، واليسر والسعادة... إذًا فإنّ الرياضة هي لتحقيق كل ذلك؛ والجذر (حظ. ر) نأخذ منه "حظرالشيء" يعني منعه وحجره، وإحتظر به يفيد معنى احتمى، والمحظور هو المحرّم؛ وقد يسعى الريّاضيّ الى تحقيق كل ذلك عبر رياضته الروحية، سيما وأنّ تعبير (حظيرة القدس) هي الجَنّة... وعندما تبدو أمامنا كلمة الجنة، يخطر على البال الكلمة الهندية (نيرفانا)...
والجذر (حظيَ حُظوةً وحِظوةً وحِظَةً) يفيد معنى كان ذا منزلة وحظٍّ ومكانةٍ، وحظيَ بالرزق، نال حظًّا منه، وأحظاه جعله ذا حظوة، والحظة والحظ مكانة عند الناس... وبالتالي لا نرى إلّا أنّ الرياضة تسعى الى تحقيق هذه الحظوظ.
*حساب الجُمّل:
من المعروف أنَّ هذا الحساب هو طريقةٌ تُوضَع فيها أحرف الهجاء العربيّة مقابل الأرقام، بمعنى أن يأخذ الحرف الهجائيّ القيمة الحسابيّة للعدد الذي يقابله وفق جدول معلوم.
وحسب التعريفات المنتشرة على المواقع الالكترونية، يقوم حساب الجُمَّل، الذي يسمّى أيضًا حساب الأبجدية، على حروف أبْجَدْ أو الحروف الأبجدية، وهي: أبْجَدْ، هوز، حطِّي، كَلَمُنْ، سَعْفَص، قَرَشَتْ، ثَخَذْ، ضَظَغٌ. ومجموعها ثمانية وعشرون حرفًا؛ تسعة منها للآحاد، وتسعة للعشرات، وتسعة للمئات، وحرف للألْف.
ولقد اعتمدت هذه الطريقة في الترقيم قبل وضع الرموز الرقميّة، وعمل البعض في تقريب الكلمات من بعضها البعض حسب قيمتها الرقميّة، ودخلت أحيانًا في الحسابات الدينيّة، والتمييز بين اسم وآخر، وبين تعبير وآخر، ذلك لأنّ بعض الأرقام ذات قيمة مقدّسة وبعضها منجّسة، ونذكر منها الواحد الأحد، والثالوث المقدّس، ورقم الشيطان، ورقم النحس، والرقم ١٣والعشرة عقد، والمئة قرن، الخ... (وهي تستحقّ دراسة مستقلّة)...
وكما دخلت هذه العمليّات الحسابيّة منذ القدم في الميتولوجيا، وفي الطقوس، فقد دخلت في الريّاضات الروحيّة، ووجدناها في الكتب التي تزعم السحر، والتنجيم، وحسب الاسم الشخصي مع حساب اسم الأم، للتوصّل الى معرفة برج ولادة الفرد، وما شابهها؛ وإذا أتينا على ذكر هذا الأمر حتى لا نغفل أهمية الرياضيّات الحسابية وتواصلها مع الريّاضيات الروحيّة....
بعد هذا العرض، نستطيع الجزم ان الرياضة والرياضيّات صاحبتا غاية وهدف مشترك، في لغتنا العربيّة..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق